للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْخَالِقِيَّةَ صِفَةً مُمَيِّزَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ سَائِرِ الذَّوَاتِ، وَكُلُّ صِفَةٍ هَذَا شَأْنُهَا فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الشَّرِكَةِ فِيهَا، قَالُوا: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَرَفْنَا أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْإِلَهِيَّةِ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَلَبَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ، فَقَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٣] قَالَ مُوسَى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٦] وَالرُّبُوبِيَّةُ إِشَارَةٌ إِلَى الخالقية التي ذكرها هاهنا، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَوِ الْقَصْدُ إِلَى ذَلِكَ النَّظَرِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَشْهُورِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْحَكِيمَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُ رَسُولًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لَوْ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، لَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ منه، لكنه تعالى قدم ذلك مُقَدِّمَةً تُلْجِئُهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ كَمَا يُحْكَى أَنَّ زُفَرَ لَمَّا بَعَثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِتَقْرِيرِ مَذْهَبِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ زَيَّفُوهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفْ طَرِيقَ التَّبْلِيغِ، لَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، وَاذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلَ أَئِمَّتِهِمْ ثُمَّ بَيِّنْ ضَعْفَهَا، ثُمَّ قل بعد ذلك: هاهنا قَوْلٌ آخَرُ، وَاذْكُرْ قَوْلِي وَحُجَّتِي، فَإِذَا تَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِمْ، فَقُلْ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَسْتَحْيُونَ فَلَا يَرُدُّونَ، فَكَذَا هاهنا أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ، فَلَوْ أَثْنَيْتَ عَلَيَّ وَأَعْرَضْتَ عَنِ الْأَوْثَانِ لَأَبَوْا ذَلِكَ، لَكِنِ اذْكُرْ لَهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خُلِقُوا مِنَ الْعَلَقَةِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهُ، ثُمَّ قُلْ: وَلَا بُدَّ لِلْفِعْلِ مِنْ فَاعِلٍ فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُضِيفُوا ذَلِكَ إِلَى الْوَثَنِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ نَحَتُوهُ، فَبِهَذَا التَّدْرِيجِ يُقِرُّونَ بِأَنِّي أَنَا الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّنَاءِ دُونَ الْأَوْثَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: ٨٧] ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الْإِلَهِيَّةُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْخَالِقِيَّةِ وَحَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النَّحْلِ: ١٧] وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالطَّبْعِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ إِنْ كَانَ حَادِثًا افْتَقَرَ إِلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا/ أَوْ قَادِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لَزِمَ أَنْ يُقَارِنَهُ الْأَثَرُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ مُخْتَارٌ وَهُوَ عَالِمٌ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ حَصَلَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُوَافِقِ لِلْمَصْلَحَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مِنْ عَلَقٍ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: ٢] . أما قوله تعالى:

[سورة العلق (٩٦) : الآيات ٣ الى ٤]

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)

فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: اقْرَأْ أَوَّلًا لِنَفْسِكَ، وَالثَّانِيَ لِلتَّبْلِيغِ أَوِ الْأَوَّلَ لِلتَّعَلُّمِ مِنْ جِبْرِيلَ وَالثَّانِيَ لِلتَّعْلِيمِ أَوِ اقْرَأْ فِي صَلَاتِكَ، وَالثَّانِيَ خَارِجَ صَلَاتِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَرَمُ إِفَادَةُ مَا يَنْبَغِي لَا لِعِوَضٍ، فَمَنْ يَهَبُ السِّكِّينَ مِمَّنْ يَقْتُلُ بِهِ نَفْسَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِكَرِيمٍ، وَمَنْ أَعْطَى ثُمَّ طَلَبَ عِوَضًا فَهُوَ لَيْسَ بِكَرِيمٍ، وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ عَيْنًا بَلِ الْمَدْحُ وَالثَّوَابُ وَالتَّخَلُّصُ

<<  <  ج: ص:  >  >>