للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْ أَلْهَمْنَاهَا الصَّبْرَ وَثَبَّتْنَاهَا: إِذْ قامُوا وَفِي هَذَا الْقِيَامِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ كَانُوا عُظَمَاءَ مَدِينَتِهِمْ فَخَرَجُوا فَاجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَكْبَرُ الْقَوْمِ إِنِّي لَأَجِدُ/ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يَجِدُهُ، قَالُوا مَا تَجِدُ؟ قَالَ أجد في نفسي أن ربي رب السموات وَالْأَرْضِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَامُوا بَيْنَ يَدَيْ ملكهم دقيانوس الجبار، وقالوا: ربنا رب السموات وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ الطَّوَاغِيتِ، فَثَبَّتَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ، وَعَصَمَهُمْ حَتَّى عَصَوْا ذَلِكَ الْجَبَّارَ، وَأَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَصَرَّحُوا بِالْبَرَاءَةِ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنَ النَّوْمِ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْنَفَ قِصَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ وَقَوْلِهِ: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً مَعْنَى الشَّطَطِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ قَدْ أَشَطَّ فِي السَّوْمِ إِذْ جَاوَزَ الْحَدَّ وَلَمْ يُسْمَعْ إِلَّا أَشَطَّ يُشِطُّ إِشْطَاطًا وَشَطَطًا، وَحَكَى الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ شَطَّ الرَّجُلُ وَأَشَطَّ إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلا تُشْطِطْ [ص: ٢٢] وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ شَطَّتِ الدَّارُ إِذَا بعدت، فالشطط البعد عن الحق، وهو هاهنا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى لَقَدْ قُلْنَا إِذًا قَوْلًا شَطَطًا، أَمَّا قَوْلُهُ: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً هَذَا مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَيَعْنُونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ دِقْيَانُوسَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ لَوْلا يَأْتُونَ- هَلَّا يَأْتُونَ- عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَمَعْنَى عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ عَدَمَ الْبَيِّنَةِ بِعَدَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى صحة هذ الطَّرِيقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ طَرِيقَةٌ قَوِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ظُلْمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذِبٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ.

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٦ الى ١٧]

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧)

اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمُ الشَّيْءَ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ إِلَّا اللَّهَ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَعْتَزِلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ. فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ جَوَابُ إِذْ كَمَا تَقُولُ إِذْ فَعَلْتَ كَذَا فَافْعَلْ كَذَا، وَمَعْنَاهُ:

اذْهَبُوا إِلَيْهِ وَاجْعَلُوهُ مَأْوَاكُمْ. يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ يَبْسُطُهَا عَلَيْكُمْ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ مَرْفِقًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَالْبَاقُونَ مِرْفَقًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا لُغَتَانِ وَاشْتِقَاقُهُمَا مِنَ الِارْتِفَاقِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُنْكِرُ فِي مِرْفَقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي فِي الْيَدِ إِلَّا كَسْرَ الْمِيمِ وَفَتْحَ الْفَاءِ، وَالْفَرَّاءُ يُجِيزُهُ فِي الْأَمْرِ وَفِي الْيَدِ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ إِلَّا أَنَّ الْفَتْحَ أَقْيَسُ وَالْكَسْرَ أَكْثَرُ وَقِيلَ الْمِرْفَقُ مَا ارْتَفَقْتَ بِهِ، وَالْمَرْفِقُ بِالْفَتْحِ الْمُرَافِقُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>