للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالشَّرْطُ فِيهَا مُرَكَّبٌ مِنْ أُمُورٍ خَمْسَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَالْجَزَاءُ هُوَ قَوْلُهُ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الْعِقَابِ. وَقَوْلُهُ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ أَخَّرَ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا؟

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي حُصُولِ النَّجَاةِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِ بَعْضِ الرُّسُلِ، فَذَكَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ النَّجَاةِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ.

وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى التَّعْزِيرِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَزْرُ فِي اللُّغَةِ الرَّدُّ، وَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُ فُلَانًا، أَيْ فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرُدُّهُ عَنِ الْقَبِيحِ وَيَزْجُرُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أَيْ نَصَرْتُمُوهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَصَرَ إِنْسَانًا فَقَدْ رَدَّ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ هُوَ التَّوْقِيرُ لَكَانَ قَوْلُهُ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الْفَتْحِ: ٩] تَكْرَارًا.

وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً دَخَلَ تَحْتَ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْإِعَادَةِ؟

وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَاتُ، وَبِهَذَا الْإِقْرَاضِ الصَّدَقَاتُ الْمَنْدُوبَةُ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهَا وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ قَالَ: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّه إِقْرَاضًا حَسَنًا لَكَانَ صَوَابًا أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَامُ الِاسْمُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧] وَلَمْ يَقُلْ بَتَقَبُّلٍ، وَقَوْلُهُ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَلَمْ يَقُلْ إِنْبَاتًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ.

فَإِنْ قِيلَ: مَنْ كَفَرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.

قُلْنَا: أَجَلْ، وَلَكِنَّ الضَّلَالَ بَعْدَهُ أَظْهَرُ وَأَعْظَمُ لِأَنَّ الْكُفْرَ إِنَّمَا عَظُمَ قُبْحُهُ لِعِظَمِ النِّعْمَةِ الْمَكْفُورَةِ، فَإِذَا زَادَتِ النِّعْمَةُ زَادَ قُبْحُ الْكُفْرِ وَبَلَغَ النِّهَايَةَ القصوى.

[[سورة المائدة (٥) : آية ١٣]]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّانِي: بِكِتْمَانِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثُ: مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ «اللَّعْنِ» وُجُوهٌ: الأول: قال عطاء: لعناهم أي أخر جناهم من رحمتنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>