أَنْ تَجْعَلَ أُولَئِكَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا بَيَانًا لِلْأَجْرِ الْمُبْهَمِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ الْأَجْرَ الْمُبْهَمَ أَرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: صِفَةُ مَكَانِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَالْعَدْنُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقَامَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ إِقَامَةٍ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ دَارُ إِقَامَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدْنُ اسْمًا لِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْجَنَّةِ/ وَهُوَ وَسَطُهَا وَأَشْرَفُ أَمَاكِنِهَا وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ: جَنَّاتُ لَفْظُ جَمْعٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قَالَهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ نَصِيبَ كَلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ جَنَّةٌ عَلَى حِدَةٍ وَذُكِرَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ أَنَّ الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْضَلَ الْمَسَاكِنِ فِي الدُّنْيَا الْبَسَاتِينُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَارُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ لِبَاسَ أَهْلِ الدُّنْيَا إِمَّا لِبَاسُ التَّحَلِّي، وَإِمَّا لِبَاسُ التَّسَتُّرِ، أَمَّا لِبَاسُ التَّحَلِّي فَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُحَلِّيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ أَوْ تُحَلِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَسْوِرَةٍ سِوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسِوَارٌ مِنْ فِضَّةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَانِ: ٢١] وَسِوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الْحَجِّ: ٢٣] ، وَأَمَّا لِبَاسُ التَّسَتُّرِ فَقَوْلُهُ: وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ وَالْمُرَادُ مِنْ سُنْدُسِ الْآخِرَةِ وَإِسْتَبْرَقِ الْآخِرَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ وَهُوَ الْخَزُّ وَالثَّانِي هُوَ الدِّيبَاجُ الصَّفِيقُ وَقِيلَ أَصْلُهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَهُوَ اسْتَبْرَهْ، أَيْ غَلِيظٌ، فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْحُلِيِّ: يُحَلَّوْنَ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَقَالَ فِي السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَيَلْبَسُونَ فَأَضَافَ اللُّبْسَ إِلَيْهِمْ، قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللُّبْسُ إِشَارَةً إِلَى مَا اسْتَوْجَبُوهُ بِعَمَلِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ الْحُلِيُّ إِشَارَةً إِلَى مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمِ ابْتِدَاءً مِنْ زَوَائِدِ الْكَرَمِ. وَثَالِثُهَا: كَيْفِيَّةُ جُلُوسِهِمْ فَقَالَ فِي صِفَتِهَا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ. قَالُوا: الْأَرَائِكُ جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَهِيَ سَرِيرٌ فِي حجلة، أما للسرير وَحْدَهُ فَلَا يُسَمَّى أَرِيكَةً. وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ قَالَ: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٤٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute