للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَيْدُهُمْ غَيْرَهُمْ فَيَرْجُو الْخَيْرَ فِي حَقِّهِمْ وَإِذَا سَمِعَ لَا يُغْنِي عَنْهُمُ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ وَانْتَظَرَ الْأَمْرَ الَّذِي لَيْسَ بِمُغْنٍ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْكَيْدِ هُوَ فِعْلٌ يَسُوءُ مَنْ نَزَلَ بِهِ وَإِنْ حَسُنَ مِمَّنْ صَدَرَ مِنْهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَمَلِ الَّذِي يَسُوءُ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ أَفْعَالُهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ نَقُولُ هُوَ قِيَاسٌ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ مَا أَغْنَى أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ لِيَقْطَعَ رَجَاءَهُمْ عَمَّا دُونَهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ مِنْ قَبْلُ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً [الطور: ٤٢] وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَدْبِيرُهُمْ فِي قَتْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

هُمُ الْمَكِيدُونَ أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ كَيْدُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَمَاذَا يَفْعَلُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْكَيْدُ بَلْ يَضُرُّهُمْ وَقَوْلُهُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَمِّمُ بَيَانٍ وَجْهُهُ هُوَ أَنَّ الدَّاعِيَ أَوَّلًا يُرَتِّبُ أُمُورًا لِدَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِانْتِصَارِ بِالْغَيْرِ وَالْمِنَّةِ ثُمَّ إِذَا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ يَنْتَصِرُ بِالْأَغْيَارِ، فَقَالَ لَا يَنْفَعُهُمْ أَفْعَالُ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَنْصُرُهُمْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَحُصُولِ الْيَأْسِ عَنْ إِقْبَالِهِمْ ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ [يس: ٢٣] ، فَقَوْلُهُ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أَيْ عِبَادَتُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَوْلُهُمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا [يُونُسَ: ١٨] وَقَوْلُهُمْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا [الزُّمَرِ: ٣] وَقَوْلُهُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، أَيْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ كَمَا لَا شَفِيعَ، وَدَفْعُ الْعَذَابِ، إِمَّا بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ أَوْ بِنَصْرِ نَاصِرٍ ثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ الْإِضَافَةُ فِي كَيْدِهِمْ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، لَا إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ، وَبَيَانُهُ هو أنك تقول أعجبني ضرب زيدا عَمْرًا، وَأَعْجَبَنِي ضَرْبُ عَمْرٍو، فَإِذَا اقْتَصَرْتَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَرِينَةِ وَالنِّيَّةِ، فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْقَائِلِ، أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ ضَارِبًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَضْرُوبًا فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْقَائِلِ، أَعْجَبَنِي قَطْعُ اللِّصِّ عَلَى سَرِقَتِهِ دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِيضَاحُ وَاضِحٍ/ لِأَنَّ كَيْدَ الْمَكِيدِ لَا يَنْفَعُ قَطْعًا، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، لَكِنَّ كَيْدَ الْكَائِدِ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُ فَقَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ، نَقُولُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهَا تَنْفَعُ، وَأَمَّا كَيْدُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا طَلَبُوا أَنْ يَنْفَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ فَالْإِشْكَالُ يَنْقَلِبُ عَلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَا إِشْكَالَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جميعا إذا تفكرت فيما قلناه.

ثم قال تعالى:

[[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٧]]

وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧)

فِي اتِّصَالِ الْكَلَامِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ [الطُّورِ: ٤٥] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقِتَالِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ نَازِلٌ قَبْلَ شَرْعِ الْقِتَالِ، وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَالَ فَذَرْهُمْ وَلَا تَذَرْهُمْ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، بَلْ لَهُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ حَيْثُ تُؤْمَرُ بِقِتَالِهِمْ، فَيَكُونُ بَيَانًا وَعْدًا يَنْسَخُ فَذَرْهُمْ بِالْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ ثَانِيهِمَا:

هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُغْنِي [الطور: ٤٦] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كَيْدَهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ قَالَ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ الْإِغْنَاءِ بَلْ لَهُمْ مَعَ أَنَّ كَيْدَهُمْ لَا يُغْنِي وَيْلٌ آخَرُ وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُعَدُّ لَهُمْ، وَلَوْ قَالَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ كَانَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَكِنْ لَا يَضُرُّ وَلَمَّا قَالَ مَعَ ذَلِكَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً زَالَ ذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ إِنْ قُلْنَا الْعَذَابُ هُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنْ قُلْنَا الْعَذَابُ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ فَالَّذِينَ ظَلَمُوا عَامٌّ فِي كُلِّ ظَالِمٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>