للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَرَائِنُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُهُمَا فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا. وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فَاطِرٍ: ٤٣] أَيْ أَذْهَبَ عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْإِشْفَاقِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْ تَفُوتَنَا كَرَامَةُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي نِلْنَاهَا الْآنَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْهُدَى قَدْ يَثْبُتُ وَلَا اهْتِدَاءَ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. وَثَانِيهَا: بُطْلَانُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى تُسْتَحَقُّ الْجَنَّةَ، وَرَابِعُهَا: إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ لِأَنَّ المقلد لا يكون متبعاً للهدى.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٣٩]]

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)

قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لَمَّا وَعَدَ اللَّهُ مُتَّبِعَ الْهُدَى بِالْأَمْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْحُزْنِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ أَعَدَّ لَهُ الْعَذَابَ الدَّائِمَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ أَوْ مِنَ الْجِنِّ فَهُمْ أَصْحَابُ الْعَذَابِ الدَّائِمِ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْعَذَابَ هَلْ يَحْسُنُ أَمْ لَا وَبِتَقْدِيرِ حُسْنِهِ فَهَلْ يَحْسُنُ دَائِمًا أَمْ لَا؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: ٧] وهاهنا آخِرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ النِّعَمَ أُمُورٌ حَادِثَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَعَلَى النُّبُوَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْهَا مُوَافِقًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا تَلْمَذَةٍ لِأَحَدٍ وَعَلَى الْمَعَادِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ابْتِدَاءً قَدَرَ عَلَى خَلْقِهَا إِعَادَةً وبالله التوفيق.

الْقَوْلُ فِي النِّعَمِ الْخَاصَّةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَقَامَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أَوَّلًا ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْإِنْعَامَاتِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْبَشَرِ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْإِنْعَامَاتِ الْخَاصَّةِ عَلَى أَسْلَافِ الْيَهُودِ كَسْرًا لِعِنَادِهِمْ وَلَجَاجِهِمْ بِتَذْكِيرِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ وَاسْتِمَالَةً لِقُلُوبِهِمْ بِسَبَبِهَا وَتَنْبِيهًا عَلَى ما يدل على نوبة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَّرَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فقال: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: ٤٠] وَفَرَّعَ عَلَى تَذْكِيرِهَا الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤١] ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْأُمُورِ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ثَانِيًا بقوله مرة أخرى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ غَفْلَتِهِمْ، ثُمَّ أَرْدَفَ هَذَا التَّذْكِيرَ بِالتَّرْغِيبِ الْبَالِغِ بِقَوْلِهِ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧] مَقْرُونًا بِالتَّرْهِيبِ الْبَالِغِ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: ٤٨] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَعْدِيدِ تِلْكَ النِّعَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي حُسْنِ التَّرْتِيبِ لِمَنْ يُرِيدُ الدَّعْوَةَ وَتَحْصِيلَ الِاعْتِقَادِ فِي قَلْبِ الْمُسْتَمِعِ. وَإِذْ قَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَلْنَتَكَلَّمِ الْآنَ فِي التَّفْسِيرِ بِعَوْنِ الله.