للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلِيمٌ

مُؤَكِّدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ كَوْنَهُ وَاسِعًا، يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنَهُ عَلِيمًا عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ لِمَكَانِ الْقُدْرَةِ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى أَيِّ عَبْدٍ شَاءَ بِأَيِّ تَفَضُّلٍ شَاءَ، وَيَصِحُّ مِنْهُ لِمَكَانِ كَمَالِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ.

ثُمَّ قَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ الْفَضْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ إِنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُؤْتِيَ بَعْضَ عِبَادِهِ مِثْلَ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْمَنَاصِبِ الْعَالِيَةِ وَيَزِيدَ عَلَيْهَا مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَالرَّحْمَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَمْرٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ رُبَّمَا بَلَغَتْ فِي الشَّرَفِ وَعُلُوِّ الرُّتْبَةِ إِلَى أَنْ لَا تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا آتَاهُمْ، بَلْ تَكُونُ أَعْلَى وَأَجَلَّ مِنْ أَنْ تُقَاسَ إِلَى مَا آتَاهُمْ، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ إِعْزَازِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ قَصْرَ إِنْعَامِهِ وَإِكْرَامِهِ عَلَى مَرَاتِبَ مُعَيَّنَةٍ، وَعَلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ جَهْلٌ بِكَمَالِ الله في القدرة والحكمة.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ] اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أُوتُوا مِنَ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْخِيَانَةَ مُسْتَقْبَحَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَرْبَابِ الْأَدْيَانِ، وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَيْهَا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى كَذِبِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبَائِحَ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَدْيَانِ وَهُوَ أنهم قالوا لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ٧٣] حَكَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ قَبَائِحِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَةِ النَّاسِ، وَهُوَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الْقَلِيلِ.

وَالْكَثِيرِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى انْقِسَامِهِمْ إِلَى قِسْمَيْنِ: بَعْضُهُمْ أَهْلُ الْأَمَانَةِ، وَبَعْضُهُمْ أَهْلُ الْخِيَانَةِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ الْأَمَانَةِ مِنْهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، أَمَّا الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الخيانة لأن مذهبهم أنه يَحِلَّ لَهُمْ قَتْلُ كُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٣] مَعَ قَوْلِهِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْأَمَانَةِ هُمُ النَّصَارَى، وَأَهْلَ الْخِيَانَةِ هُمُ الْيَهُودُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّ مَذْهَبَ الْيَهُودِ أَنَّهُ يُحِلُّ قَتْلَ الْمُخَالِفِ وَيُحِلُّ أَخْذَ مَالِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْدَعَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَأَدَّى إِلَيْهِ، وَأَوْدَعَ آخَرُ فِنْحَاصَ بْنَ عَازُورَاءَ دِينَارًا فَخَانَهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ أَمِنْتُهُ بِكَذَا وَعَلَى كَذَا، كَمَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِهِ وَعَلَيْهِ، فَمَعْنَى الْبَاءِ إِلْصَاقُ الْأَمَانَةِ، وَمَعْنَى:

عَلَى اسْتِعْلَاءُ الْأَمَانَةِ، فَمَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي مَعْنَى الْمُلْتَصِقِ بِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَاتِّصَالِهِ بِحِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ، وَأَيْضًا صَارَ الْمُودَعُ كَالْمُسْتَعْلِي عَلَى تِلْكَ الْأَمَانَةِ وَالْمُسْتَوْلِي عَلَيْهَا، فَلِهَذَا حَسُنَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى