للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ:

الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ سُخْرِيَةً مِثْلَ سُخْرِيَتِكُمْ إِذَا وَقَعَ عَلَيْكُمُ الْغَرَقُ فِي الدُّنْيَا وَالْخِزْيُ فِي الْآخِرَةِ. الثَّانِي: إِنْ حَكَمْتُمْ عَلَيْنَا بِالْجَهْلِ فِيمَا نَصْنَعُ فَإِنَّا نَحْكُمُ عَلَيْكُمْ بِالْجَهْلِ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّعَرُّضِ لِسُخْطِ اللَّه تَعَالَى وَعَذَابِهِ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالسُّخْرِيَةِ مِنَّا. الثَّالِثُ: إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ وَاسْتِجْهَالُكُمْ أَقْبَحُ وَأَشَدُّ، لِأَنَّكُمْ لَا تَسْتَجْهِلُونَ إِلَّا لِأَجْلِ الْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ الْحَالِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأَطْفَالِ وَالْجُهَّالِ.

فَإِنْ قِيلَ: السُّخْرِيَةُ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْمُقَابَلَةَ سُخْرِيَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] .

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أَيْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالسُّخْرِيَةِ وَمَنْ هُوَ أَحْمَدُ عَاقِبَةً، وَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَأْتِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى أَيْ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيُّنَا يَأْتِيهِ عَذَابٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَحَلُّ «مَنْ» رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ/ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَيَكُونُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ به.

[[سورة هود (١١) : آية ٤٠]]

حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)

[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حَتَّى هِيَ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ أُدْخِلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَوَقَعَتْ غَايَةً لِقَوْلِهِ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أَيْ فَكَانَ يَصْنَعُهَا إِلَى أَنْ جَاءَ وَقْتُ الْمَوْعِدِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤٠] فَكَانَ الْمُرَادُ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من الأمر هاهنا هُوَ الْعَذَابَ الْمُوعَدَ بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنُّورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ التَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ فَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَنُّورٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: كَانَ لِآدَمَ قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ تَنُّورًا مِنْ حِجَارَةٍ، وَكَانَ لِحَوَّاءَ حَتَّى صَارَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهِ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ كَانَ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ،

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، قَالَ: وَقَدْ صَلَّى فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا،

وَقِيلَ بِالشَّامِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: عين ووردان وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَقِيلَ: فَارَ التَّنُّورُ بِالْهِنْدِ، وَقِيلَ: إِنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ تَخْبِزُ فِي ذَلِكَ التَّنُّورِ فَأَخْبَرَتْهُ بِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ ذَلِكَ التَّنُّورِ فَاشْتَغَلَ فِي الْحَالِ بِوَضْعِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي السَّفِينَةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّنُّورِ تَنُّورَ الْخُبْزِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ انْفَجَرَ الْمَاءُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ:

١١، ١٢] وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَجْهَ الْأَرْضِ تَنُّورًا. الثَّانِي: أَنَّ التَّنُّورَ أَشْرَفُ مَوْضِعٍ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَى مَكَانٍ فِيهَا وَقَدْ أَخْرَجَ إِلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>