للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]

كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ التَّاسِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ للكفار حَالَ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا إِنَّكَ إِنَّمَا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لِهَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا وَلِهَذِهِ الْمِحَنِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا لِأَجْلِ حُبِّكَ لِلدُّنْيَا وَرَغْبَتِكَ فِي طَيِّبَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْآفَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُشْتَغِلُ بِتَحْصِيلِهَا يَجْرِي مَجْرَى لُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَلْوَاءِ، وَفِيهَا السلم الْمُهْلِكُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ يُرِيدُ أَكْلَهَا وَلَا يَتْرُكُهَا بِسَبَبِ نَصِيحَةِ النَّاصِحِينَ وَتَذْكِيرِ الْمُذَكِّرِينَ: كُلْ هَذَا وَوَيْلٌ لَكَ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا فَإِنَّكَ مِنَ الْهَالِكِينَ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ أَمْرًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَهْيٌ بَلِيغٌ وَزَجْرٌ عَظِيمٌ وَمَنْعٌ فِي غَايَةِ الْمُبَالَغَةِ.

ثم قال تعالى:

[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: هَبْ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَلَكِنْ لَا تُعْرِضُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ خِدْمَةِ خَالِقِكُمْ بَلْ تَوَاضَعُوا لَهُ فَإِنَّكُمْ إِنْ آمَنْتُمْ ثُمَّ ضَمَمْتُمْ إِلَيْهِ طَلَبَ اللَّذَّاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي حَصَلَ لَكُمْ رَجَاءُ الْخَلَاصِ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذَلِكَ وَلَا يَنْقَادُونَ لِطَاعَتِهِ، وَيَبْقَوْنَ مُصِرِّينَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَعْرِيضِهِمْ أَنْفُسَهُمْ لِلْعِقَابِ الْعَظِيمِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيِ الْوَيْلُ لِمَنْ يُكَذِّبُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ يُرْشِدُونَهُمْ إِلَى هَذِهِ المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى الصَّلَاةِ لَا يُصَلُّونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُمْ حَالَ كَفْرِهِمْ كَمَا يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ حَالَ كَفْرِهِمْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُعْبَدَ سِوَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلِكُفْرِهِمْ ذَمَّهُمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَأْمُورَ بِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ جائز.

[[سورة المرسلات (٧٧) : آية ٥٠]]

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي زَجْرِ الْكُفَّارِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا بِالْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ الَّتِي شرحناها،

<<  <  ج: ص:  >  >>