للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أَيْ إِذَا رَجَعْنَ عَنِ النُّشُوزِ إِلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ هَذَا التَّأْدِيبِ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَيْ لَا تَطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ الضَّرْبَ وَالْهِجْرَانَ طَرِيقًا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْإِيذَاءِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً وَعُلُوُّهُ لَا بِعُلُوِّ الْجِهَةِ، وَكِبَرُهُ لَا بِكِبَرِ الْجُثَّةِ، بَلْ هُوَ عَلِيٌّ كَبِيرٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. وَذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَهْدِيدُ الْأَزْوَاجِ عَلَى ظُلْمِ النِّسْوَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ إن ضَعُفْنَ عَنْ دَفْعِ ظُلْمِكُمْ وَعَجَزْنَ عَنْ الِانْتِصَافِ مِنْكُمْ، فاللَّه سُبْحَانَهُ عَلِيٌّ قَاهِرٌ كَبِيرٌ قَادِرٌ يَنْتَصِفُ لَهُنَّ مِنْكُمْ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُنَّ مِنْكُمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَغْتَرُّوا بِكَوْنِكُمْ أَعْلَى يَدًا مِنْهُنَّ، وَأَكْبَرَ دَرَجَةً مِنْهُنَّ.

الثَّانِي: لَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ إِذَا أَطَعْنَكُمْ لِعُلُوِّ أَيْدِيكُمْ. فَإِنَّ اللَّه أَعْلَى مِنْكُمْ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُكَلَّفَ إِلَّا بِالْحَقِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ عُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ لَا يُكَلِّفُكُمْ إِلَّا مَا تُطِيقُونَ، فَكَذَلِكَ لَا تُكَلِّفُوهُنَّ مَحَبَّتَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَقْدِرْنَ عَلَى ذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَعَ عُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ لَا يُؤَاخِذُ الْعَاصِي إِذَا تَابَ، بَلْ يَغْفِرُ لَهُ، فَإِذَا تَابَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ نُشُوزِهَا فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَنْ تَقْبَلُوا تَوْبَتَهَا وَتَتْرُكُوا مُعَاقَبَتَهَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ عُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ اكْتَفَى مِنَ الْعَبْدِ بِالظَّوَاهِرِ، وَلَمْ يَهْتِكِ السَّرَائِرَ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى أَنْ تَكْتَفُوا بِظَاهِرِ حَالِ الْمَرْأَةِ، وَأَنْ لَا تَقَعُوا فِي التَّفْتِيشِ عَمَّا فِي قلبها وضميرها من الحب والبعض.

[[سورة النساء (٤) : آية ٣٥]]

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عِنْدَ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ أَنَّ الزَّوْجَ يَعِظُهَا، ثُمَّ يَهْجُرُهَا، ثُمَّ يَضْرِبُهَا، بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ/ يَبْقَ بَعْدَ الضَّرْبِ إِلَّا الْمُحَاكَمَةُ إِلَى مَنْ يُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما إِلَى آخر الآية وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خِفْتُمْ أَيْ عَلِمْتُمْ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الظَّنِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ يَظْهَرُ لَهُ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الْخَوْفُ وَأَمَّا بَعْدَ الْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ لَمَّا أَصَرَّتْ عَلَى النُّشُوزِ، فَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا نَاشِزَةً:

فوجب حمل الخوف هاهنا عَلَى الْعِلْمِ. طَعَنَ الزَّجَّاجُ فِيهِ فَقَالَ: خِفْتُمْ هاهنا بِمَعْنَى أَيْقَنْتُمْ خَطَأٌ، فَإِنَّا لَوْ عَلِمْنَا الشِّقَاقَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى الْحَكَمَيْنِ.

وَأَجَابَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ وُجُودَ الشِّقَاقِ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، إِلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشِّقَاقَ صَدَرَ عَنْ هَذَا أَوْ عَنْ ذَاكَ، فَالْحَاجَةُ إِلَى الْحُكْمَيْنِ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وُجُودُ الشِّقَاقِ فِي الْحَالِ مَعْلُومٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ خَوْفٌ، إِنَّمَا الْخَوْفُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى ذَلِكَ الشِّقَاقُ أَمْ لَا؟ فَالْفَائِدَةُ فِي بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ لَيْسَتْ إِزَالَةَ الشِّقَاقِ الثَّابِتِ فِي الْحَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، بَلِ الْفَائِدَةُ إِزَالَةُ ذَلِكَ الشِّقَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِلشِّقَاقِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَفْعَلُ مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ فِي شِقٍّ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُبَايَنَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: شِقاقَ بَيْنِهِما مَعْنَاهُ: شِقَاقًا بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّهُ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الظَّرْفِ وَإِضَافَةُ الْمَصَادِرِ إِلَى الظُّرُوفِ جَائِزَةٌ لِحُصُولِهَا فِيهَا، يُقَالُ: يُعْجِبُنِي صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣] .

<<  <  ج: ص:  >  >>