للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[سورة المائدة (٥) : آية ٦٣]]

لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)

مَعْنَى لَوْلا هاهنا التحضيض وَالتَّوْبِيخُ، وَهُوَ بِمَعْنَى هَلَّا، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ قَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ الْحَسَنُ: الرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ، وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّهُ فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى اسْتَبْعَدَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مَا نَهَوْا سَفَلَتَهُمْ وَعَوَامَّهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ مُرْتَكِبِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ ذَمَّ تَارِكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْمُقْدِمِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِ السُّحْتِ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة: ٦٢] وَقَالَ فِي الْعُلَمَاءِ التَّارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ وَالصُّنْعُ أَقْوَى مِنَ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ/ إِنَّمَا يُسَمَّى صِنَاعَةً إِذَا صَارَ مُسْتَقِرًّا رَاسِخًا مُتَمَكِّنًا، فَجَعَلَ جُرْمَ الْعَامِلِينَ ذَنْبًا غَيْرَ رَاسِخٍ، وَذَنْبَ التَّارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ذَنْبًا رَاسِخًا، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَرَضُ الرُّوحِ، وَعِلَاجُهُ الْعِلْمُ باللَّه وَبِصِفَاتِهِ وَبِأَحْكَامِهِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْعِلْمُ وَمَا زَالَتِ الْمَعْصِيَةُ كَانَ مِثْلَ الْمَرَضِ الَّذِي شَرِبَ صَاحِبُهُ الدَّوَاءَ فَمَا زَالَ، فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَرَضَ صَعْبٌ شَدِيدٌ لَا يَكَادُ يَزُولُ، فَكَذَلِكَ الْعَالِمُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ أَشَدُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفَ عِنْدِي مِنْهَا واللَّه أعلم.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٦٤]]

وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا.

اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، وَنَرَى الْيَهُودَ مُطْبِقِينَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّا لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَلَا نَعْتَقِدُهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَيْضًا الْمَذْهَبُ الَّذِي يُحْكَى عَنِ الْعُقَلَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْبُطْلَانِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ يَدَ اللَّه مَغْلُولَةٌ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا (اللَّه) اسْمٌ لِمَوْجُودٍ قَدِيمٍ، وَقَادِرٍ عَلَى خَلْقِ الْعَالَمِ وَإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَهَذَا الْمَوْجُودُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ مَغْلُولَةً وَقُدْرَتُهُ مُقَيَّدَةً وَقَاصِرَةً، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ حِفْظُ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرُهُ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: حَصَلَ الْإِشْكَالُ الشَّدِيدُ فِي كَيْفِيَّةِ تَصْحِيحِ هَذَا النَّقْلِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَنَقُولُ: عِنْدَنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: ٢٤٥] قَالُوا: لَوِ احْتَاجَ إِلَى الْقَرْضِ لَكَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا، فَلَمَّا حَكَمُوا بِأَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي يَسْتَقْرِضُ شَيْئًا مِنْ عِبَادِهِ فَقِيرٌ مَغْلُولُ الْيَدَيْنِ، لَا جَرَمَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ الثَّانِي: لَعَلَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ قَالُوا عَلَى/ سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ: إِنَّ إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>