للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنْهُ إِنْعَامٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِنْجَاءِ إِنْعَامًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: ظَاهِرٌ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ آمَنَ كَذَلِكَ نُنَجِّيهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَلَا نُهْلِكُهُ وَعْدًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ يَصُونُهُمْ عَنِ الْإِهْلَاكَاتِ الْعَامَّةِ وَالسَّيِّئَاتِ الْمُطْبِقَةِ الشَّامِلَةِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ لَهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِالثَّوَابِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: كَمَا نَجَّيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيْ كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ نُنْعِمُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْإِهْلَاكَاتِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَمِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لَازِمٌ بِحُكْمِ الْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ يُنَجِّي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَةِ: ٨٥] وَالشَّاكِرُ مُحْسِنٌ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ جَزَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:

[[سورة القمر (٥٤) : آية ٣٦]]

وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦)

وَفِيهِ تَبْرِئَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَانُ أَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَتَّبَ التَّعْذِيبَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَكَانَ مِنَ الرَّحْمَةِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهِ الْإِنْذَارَاتِ الْبَالِغَةَ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَهْلَكْنَاهُمْ وَكَانَ قَدْ أَنْذَرَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَفِي قَوْلِهِ:

بَطْشَتَنا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ الْبَطْشَةُ الَّتِي وَقَعَتْ وَكَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً [القمر: ٣٤] فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ، ذكرها للإنذار بِهَا وَالتَّخْوِيفِ وَثَانِيهِمَا:

الْمُرَادُ بِهَا مَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى [الدُّخَانِ: ١٦] وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ كَانُوا يُنْذِرُونَ قَوْمَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: ١٤] وَقَالَ:

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِرٍ: ١٨] وَقَالَ تَعَالَى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً

[النَّبَإِ: ٤٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [الْبُرُوجِ: ١٢] وَقَالَ هَاهُنَا: بَطْشَتَنا وَلَمْ يَقُلْ: بَطَشْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ بَطْشَ/ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ بَيَانٌ لِجِنْسِ بَطْشِهِ، فَإِذَا كَانَ جِنْسُهُ شَدِيدًا فَكَيْفَ الْكُبْرَى مِنْهُ، وَأَمَّا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَذَكَرَ لَهُمُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى لِئَلَّا يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي التَّبْلِيغِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:

فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ يَدُلُّ على أن النذر هي الإنذارات. ثم قال تعالى:

[[سورة القمر (٥٤) : آية ٣٧]]

وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)

وَالْمُرَاوَدَةُ مِنَ الرَّوْدِ، وَمِنْهُ الْإِرَادَةُ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُطَالَبَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْعَيْنِ يُقَالُ: طَالَبَ زَيْدٌ عَمْرًا بِالدَّرَاهِمِ، وَالْمُرَاوَدَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْعَمَلِ يُقَالُ: رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ، وَلِهَذَا تُعَدَّى الْمُرَاوَدَةُ إلى مفعول ثان بعن، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْبَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّغْلَ مَنُوطٌ بِاخْتِيَارِ الْفَاعِلِ، وَالْعَيْنُ قَدْ تُوجَدُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَهَذَا فَرْقُ الْحَالِ، فَإِذَا قُلْتَ: أَخْبِرْنِي بِأَمْرِهِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ الْعَيْنُ بِخِلَافٍ مَا إِذَا قِيلَ عَنْ كَذَا، وَيُزِيدُ هَذَا ظُهُورًا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلَانٍ، وَقَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي بِمَجِيئِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ عَنْ مَجِيئِهِ رُبَّمَا يَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْمَجِيءِ لَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَنِي بِمَجِيئِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ نَفْسِ الْمَجِيءِ وَالضَّيْفُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ وَكَيْفِيَّةُ الْمُرَاوَدَةِ مَذْكُورَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كانوا مفسدين وسمعوا يضيف

<<  <  ج: ص:  >  >>