للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِخَالِقٍ وَلَا رَبٍّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ طَاعَةِ الرَّبِّ وَالْخَالِقِ، أَلَا يَكُونُ هَذَا غَايَةَ الْحَمَاقَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: يَنْهى عَبْداً وَلَمْ يَقُلْ: يَنْهَاكَ، وَفِيهِ فَوَائِدُ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي عَبْدًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي الْعُبُودِيَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ عَبْدٌ لَا يَفِي الْعَالِمُ بِشَرْحِ بَيَانِهِ وَصِفَةِ إِخْلَاصِهِ فِي/ عُبُودِيَّتِهِ يُرْوَى: فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ يَهُودِيًّا مِنْ فُصَحَاءِ الْيَهُودِ جَاءَ إِلَى عُمَرَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَخْلَاقِ رَسُولِكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: اطْلُبْهُ مِنْ بِلَالٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. ثُمَّ إِنَّ بِلَالًا دَلَّهُ عَلَى فَاطِمَةَ ثُمَّ فَاطِمَةُ دَلَّتْهُ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَأَلَ عَلِيًّا عَنْهُ قَالَ: صِفْ لِي مَتَاعَ الدُّنْيَا حَتَّى أَصِفَ لَكَ أَخْلَاقَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: هَذَا لَا يَتَيَسَّرُ لِي، فَقَالَ عَلِيٌّ:

عَجَزْتَ عَنْ وَصْفِ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ عَلَى قِلَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: ٧٧] فَكَيْفَ أَصِفُ أَخْلَاقَ النَّبِيِّ وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَظِيمٌ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: ٤] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَنْهَى أَشَدَّ الْخَلْقِ عُبُودِيَّةً عَنِ الْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ فَيَنْهَى كُلَّ مَنْ يَرَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا تَخْوِيفٌ لِكُلِّ مَنْ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ،

رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُصَلَّى أَقْوَامًا يُصَلُّونَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ:

أَلَا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى فَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ،

وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْهُ هَذَا الْأَدَبَ الْجَمِيلَ حَيْثُ قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: أَيَقُولُ الْمُصَلِّي حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؟ قَالَ: يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَيَسْجُدُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ وَرَابِعُهَا: أَيَظُنُّ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْجُدْ مُحَمَّدٌ لِي لَا أَجِدُ سَاجِدًا غَيْرَهُ، إِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَلِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا أَنَا وَهُمْ دَائِمًا فِي الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِنَّهُ مَعَ التَّنْكِيرِ مُعَرَّفٌ، نَظِيرُهُ الْكِنَايَةُ فِي سُورَةِ الْقَدْرِ حُمِلَتْ عَلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ١] أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ [الْكَهْفِ: ١] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: ١٩] . ثم قال تعالى:

[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١١ الى ١٢]

أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [العلق: ١٣] لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَوْ جَعَلْنَا الْوَسَطَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ لَخَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ النَّظْمِ الْحَسَنِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا مُحَمَّدُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ، وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ صَارَ عَلَى الْهُدَى، وَاشْتَغَلَ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، أَمَا كَانَ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ إِذْ هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ ذُو ثَرْوَةٍ، فَلَوِ اخْتَارَ الدِّينَ وَالْهُدَى وَالْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، أَمَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنْ خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: تَلَهَّفْ عَلَيْهِ كَيْفَ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ وَقَنِعَ بِالْمَرَاتِبِ الدَّنِيئَةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَالْمُشَاهِدِ لِلظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَكَالْمَوْلَى الَّذِي قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدَانِ، وَكَالْحَاكِمِ الَّذِي حَضَرَ عِنْدَهُ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَخَاطَبَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا/ مَرَّةً. فَلَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ:

<<  <  ج: ص:  >  >>