تَتَزَايَدُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى الْجَزْمِ. الثَّانِي: أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَةِ فَكَثْرَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ جَارٍ مَجْرَى تَكْرَارِ الدَّرْسِ الْوَاحِدِ، فَكَمَا أَنَّ كَثْرَةَ التَّكْرَارِ تُفِيدُ الْحِفْظَ الْمُتَأَكَّدَ الَّذِي لَا يَزُولُ عَنِ القلب، فكذا هاهنا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَلْبَ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ كَانَ مُظْلِمًا جِدًّا فَإِذَا حَصَلَ فِيهِ الِاعْتِقَادُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ امْتَزَجَ نُورُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ بِظُلْمَةِ سَائِرِ الصِّفَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ، فَحَصَلَ فِيهِ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْحَالَةِ الْمُمْتَزِجَةِ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِدْلَالُ/ الثَّانِي امْتَزَجَ نُورُهُ بِالْحَالَةِ الْأُولَى، فَيَصِيرُ الْإِشْرَاقُ وَاللَّمَعَانُ أَتَمَّ. وَكَمَا أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا قَرُبَتْ مِنَ الْمَشْرِقِ ظَهَرَ نُورُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَهُوَ الصُّبْحُ. فَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ يَكُونُ كَالصُّبْحِ، ثُمَّ كَمَا أَنَّ الصُّبْحَ لَا يَزَالُ يَتَزَايَدُ بِسَبَبِ تَزَايُدِ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنْ سَمْتِ الرَّأْسِ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى سَمْتِ الرَّأْسِ حَصَلَ النُّورُ التَّامُّ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ كُلَّمَا كَانَ تَدَبُّرُهُ فِي مَرَاتِبِ مَخْلُوقَاتِ اللَّه تَعَالَى أَكْثَرَ كَانَ شُرُوقُ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ أَجْلَى. إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ شَمْسِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ شَمْسِ الْعَالَمِ أَنَّ شَمْسَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ لَهَا فِي الِارْتِقَاءِ وَالتَّصَاعُدِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ فِي الصُّعُودِ، وَأَمَّا شَمْسُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَقْلِ وَالتَّوْحِيدِ، فَلَا نِهَايَةَ لِتَصَاعُدِهَا وَلَا غَايَةَ لِازْدِيَادِهَا فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى دَرَجَاتِ أَنْوَارِ التَّجَلِّي وَشُرُوقِ شَمْسِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٦ الى ٧٩]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي جُمْلَةٌ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يُقَالُ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ، ويقال: لكل/ ما سترته جَنَّ وَأَجَنَّ، وَيُقَالُ أَيْضًا جَنَّهُ اللَّيْلُ، وَلَكِنَّ الِاخْتِيَارَ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ. هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَعْنَى جَنَّ سَتَرَ وَمِنْهُ الْجَنَّةُ وَالْجِنُّ وَالْجُنُونُ وَالْجَانُّ وَالْجَنِينُ وَالْمِجَنُّ وَالْجَنَنُ وَالْمُجَنُّ، وَهُوَ الْمَقْبُورُ. وَالْمَجَنَّةُ كُلُّ هَذَا يَعُودُ أَصْلُهُ إِلَى السَّتْرِ وَالِاسْتِتَارِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ. وَلِهَذَا دَخَلَتْ «عَلَى» عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ فِي أَظْلَمَ. فَأَمَّا جَنَّهُ فَسَتَرَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينِ مَعْنَى (أَظْلَمَ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا أَنَّ مَلِكَ ذَلِكَ الزَّمَانِ رَأَى رُؤْيَا وَعَبَّرَهَا الْمُعَبِّرُونَ بِأَنَّهُ يُولَدُ غُلَامٌ يُنَازِعُهُ فِي مِلْكِهِ، فَأَمَرَ ذَلِكَ الْمَلِكُ بِذَبْحِ كُلِّ غُلَامٍ يُولَدُ، فَحَبِلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَمَا أَظْهَرَتْ حَبَلَهَا لِلنَّاسِ، فَلَمَّا جَاءَهَا الطَّلْقُ ذَهَبَتْ إِلَى كَهْفٍ فِي جَبَلٍ وَوَضَعَتْ إِبْرَاهِيمَ وَسَدَّتِ الْبَابَ بِحَجَرٍ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ فِي فَمِهِ فَمَصَّهُ فَخَرَجَ مِنْهُ رِزْقُهُ وَكَانَ يَتَعَهَّدُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتِ الْأُمُّ تَأْتِيهِ أَحْيَانًا وَتُرْضِعُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute