للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قال: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَفِي مَحَلِّ: الَّذِينَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ:

وَالَّذِينَ هاجَرُوا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التقدير: أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مَدْحٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ الَّذِي هُوَ حَرَمُ اللَّهِ، وَعَلَى الْمُجَاهَدَةِ وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ. أَمَّا الصَّبْرُ فَلِلسَّعْيِ فِي قَهْرِ النَّفْسِ، وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَلِلِانْقِطَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْخَلْقِ وَالتَّوَجُّهِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ مَبْدَأُ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: آخِرُ هَذَا الطَّرِيقِ وَنِهَايَتُهُ، وَاللَّهُ أعلم.

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٧]

وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)

[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ وَاحِدًا مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ لَوْ أَرَادَ بِعْثَةَ رَسُولٍ إِلَيْنَا لَكَانَ يَبْعَثُ مَلَكًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فلا نعيده هاهنا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: ٨] وَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧] وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣، ٣٤] وَقَالَ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ/ مِنْهُمْ [يُونُسَ: ٢] وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفَرْقَانِ: ٧] .

فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ الْخَلْقِ وَالتَّكْلِيفِ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْعَادَةُ مُسْتَمِرَّةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَطَعْنُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ بِهَذَا السُّؤَالِ الرَّكِيكِ أَيْضًا طَعْنٌ قَدِيمٌ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ مَلَكًا، لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: ١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ إِلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى النَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي: وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَّا مَنْ هُوَ بِصُورَةِ الرِّجَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. ثم قال الْقَاضِي: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي يُرْسَلُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِحَضْرَةِ أُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا بِصُورَةِ الرِّجَالِ، كَمَا

رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَفِي صُورَةِ سُرَاقَةَ،

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ حَالِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ عِنْدَ إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الرَّسُولِ قَدْ يَبْقَوْنَ عَلَى صُورَتِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ،

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ،

وَعَلَيْهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النَّجْمِ: ١٣]

<<  <  ج: ص:  >  >>