للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنِّي أَجْعَلُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدِي. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ إِنَّمَا يَعْظُمُ مَوْقِعُهُ إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَعَدَهُمْ بِالْأَجْرِ قَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَهُوَ حُصُولُ الْقُرْبَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَبْدًا ذَلِيلًا مَهِينًا عَاجِزًا وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالسَّحَرَةِ فِي دَفْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السَّحَرَةَ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى قَلْبِ الْأَعْيَانِ وَإِلَّا لَمَا احْتَاجُوا إِلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالْمَالِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَلِمَ لَمْ يَقْلِبُوا التُّرَابَ ذَهَبًا وَلِمَ لَمْ يَنْقُلُوا مُلْكَ فِرْعَوْنَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَلِمَ لَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ مُلُوكَ الْعَالَمِ وَرُؤَسَاءَ الدُّنْيَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْبِيهُ الْإِنْسَانِ لِهَذِهِ الدَّقَائِقِ وَأَنْ لَا يَغْتَرَّ بِكَلِمَاتِ أَهْلِ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَكَاذِيبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٥ الى ١١٩]

قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)

[في قوله تعالى قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: فِي بَابِ «أَمَّا وَإِمَّا» إِذَا كُنْتَ آمِرًا أَوْ نَاهِيًا أَوْ مُخْبِرًا فَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَإِذَا كُنْتَ مُشْتَرِطًا أَوْ شَاكًّا أَوْ مُخَيِّرًا فَهِيَ مَكْسُورَةٌ تَقُولُ فِي الْمَفْتُوحَةِ أَمَّا اللَّهُ فَاعْبُدُوهُ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَلَا تَشْرَبُوهَا وَأَمَّا زَيْدٌ فَقَدْ خَرَجَ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَتَقُولُ: إِذَا كُنْتَ مُشْتَرِطًا إِمَّا تُعْطِيَنَّ زَيْدًا فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ [الْأَنْفَالِ: ٥٧] وَتَقُولُ فِي الشَّكِّ لَا أَدْرِي مَنْ قَامَ إِمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو وَتَقُولُ فِي التَّخْيِيرِ لِي بِالْكُوفَةِ دَارٌ فَإِمَّا أَنْ أَسْكُنَهَا وَإِمَّا أَنْ أَبِيعَهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِمَّا إِذَا أَتَتْ لِلشَّكِّ وَبَيْنَ أَوْ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَنَيْتَ كَلَامَكَ عَلَى الْيَقِينِ ثم أدرك الشَّكُّ فَقُلْتَ أَوْ عَمْرٌو فَصَارَ الشَّكُّ فِيهِمَا جَمِيعًا فَأَوَّلُ الِاسْمَيْنِ فِي «أَوْ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَعْرِضُ الشَّكُّ فَتَسْتَدْرِكُ بِالِاسْمِ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: قَامَ أَخُوكَ وَتَسْكُتُ ثُمَّ تَشُكُّ فَتَقُولُ: أَوْ أَبُوكَ وَإِذَا ذَكَرْتَ إِمَّا فَإِنَّمَا تَبْنِي كَلَامَكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الشَّكِّ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ ضَرَبْتَ إِمَّا عَبْدَ اللَّهِ وَتَسْكُتُ وَأَمَّا دُخُولُ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَسُقُوطُهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: ١٠٦] فَقَالَ الْفَرَّاءُ:

أَدْخَلَ (أَنْ) فِي إِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ أَمْرٍ بِالِاخْتِيَارِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اخْتَرْ ذَا أَوْ ذَا كَأَنَّهُمْ قَالُوا اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ أَوْ نُلْقِيَ وَقَوْلُهُ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِالتَّخْيِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ لا يصلح هاهنا فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ «أَنْ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ يُرِيدُ عَصَاهُ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ أَيْ مَا مَعَنَا مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَمَفْعُولُ الْإِلْقَاءِ مَحْذُوفٌ وَفِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَوْمَ رَاعَوْا حُسْنَ الْأَدَبِ حَيْثُ قَدَّمُوا مُوسَى

<<  <  ج: ص:  >  >>