ثم قال: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرد على الكفار الَّذِي قَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّنَا أَمِنْ نُحَاسٍ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ. وَثَانِيهَا:
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّدَّ عَلَى جِدَالِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي طَلَبِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِنْزَالِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. وَفِي هَذِهِ الْوَاوِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى: فَيُصِيبُ بِالصَّاعِقَةِ مَنْ يَشَاءُ فِي حَالِ جِدَالِهِ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْبَدَ لَمَّا جَادَلَ فِي اللَّهِ أَحْرَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ ذِكْرَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ.
ثم قال تَعَالَى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ وَفِي لَفْظِ الْمِحَالِ أَقْوَالٌ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمِيمُ زَائِدَةٌ وَهُوَ مِنَ الْحَوْلِ، وَنَحْوُهُ مِيمُ مِكَانٍ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى مِثَالِ فِعَالٍ أَوَّلُهُ مِيمٌ مَكْسُورَةٌ فَهِيَ أَصْلِيَّةٌ، نَحْوَ مِهَادٍ ومداس ومداد، واختلفوا مم أُخِذَ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ مِنْ قَوْلِهِمْ مَحَلَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا سَعَى بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ وَعَرَّضَهُ لِلْهَلَاكِ، وَتَمَحَّلَ لِكَذَا إِذَا تَكَلَّفَ اسْتِعْمَالَ الْحِيلَةِ وَاجْتَهَدَ فِيهِ، فَكَانَ الْمَعْنَى:
أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَدِيدُ الْمَكْرِ لِأَعْدَائِهِ يُهْلِكُهُمْ بِطَرِيقٍ لَا يَتَوَقَّعُونَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمِحَالَ عِبَارَةٌ عَنِ الشِّدَّةِ، ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وما حلت فُلَانًا مِحَالًا. أَيْ قَاوَمْتُهُ أَيُّنَا أَشَدُّ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَمِحَالٌ فِعَالٌ مِنَ الْمَحْلِ وَهُوَ الشِّدَّةُ وَلَفْظُ فِعَالٍ يَقَعُ عَلَى الْمُجَازَاةِ/ وَالْمُقَابَلَةِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى شَدِيدُ الْمُغَالَبَةِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا عِبَارَاتٌ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: شَدِيدُ الْقُوَّةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَدِيدُ الْعُقُوبَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: شَدِيدُ النِّقْمَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدِيدُ الْحَوْلِ. الثالث: قال ابن عرفة: يقال ما حل عَنْ أَمْرِهِ أَيْ جَادَلَ، فَقَوْلُهُ: شَدِيدُ الْمِحالِ أَيْ شَدِيدُ الْجِدَالِ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: شَدِيدُ الْمِحالِ أَيْ شَدِيدُ الْحِقْدِ. قَالُوا: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحِقْدَ لَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِذَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا تَحْصُلُ عَلَى نِهَايَاتِ الْأَعْرَاضِ لَا عَلَى مَبَادِئِ الْأَعْرَاضِ، فَالْمُرَادُ بِالْحِقْدِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ إِيصَالَ الشَّرِّ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يُخْفِي عنه تلك الإرادة.
[[سورة الرعد (١٣) : آية ١٤]]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أَيْ لِلَّهِ دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَفِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: فِي أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ وَهِيَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: دَعْوَةُ الْحَقِّ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَثَانِيهَا: قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، فَدُعَاؤُهُ هُوَ الْحَقُّ، كَأَنَّهُ يُومِئُ إِلَى أَنَّ الِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ هُوَ الْحَقُّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَالْمَوْجُودُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَهُوَ حَقٌّ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ بَاطِلًا وَقِسْمٌ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ بَاطِلًا وَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الْحَقِيقِيُّ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مَوْجُودًا لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ كَانَ أَحَقَّ الْمَوْجُودَاتِ بِأَنْ يَكُونَ حَقًّا هُوَ هُوَ وَكَانَ أَحَقُّ الِاعْتِقَادَاتِ وَأَحَقُّ الْأَذْكَارِ بِأَنْ يَكُونَ حَقًّا هُوَ اعْتِقَادَ ثُبُوتِهِ وَذِكْرَ وَجُودِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَاعْتِقَادُ وُجُودِهِ هُوَ الْحَقُّ فِي الِاعْتِقَادَاتِ.