للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذِكْرُهُ بِالثَّنَاءِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْكَمَالِ هُوَ الْحَقُّ فِي الْأَذْكَارِ فَلِهَذَا قَالَ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ.

البحث الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» دَعْوَةُ الْحَقِّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُضَافَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ كَمَا تُضَافُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ فِي قَوْلِهِ: كَلِمَةُ الْحَقِّ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مُخْتَصَّةً بِكَوْنِهَا حَقَّةً وَكَوْنِهَا خَالِيَةً عَنْ أَمَارَاتِ كَوْنِهِ بَاطِلًا، وَهَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى صِفَتِهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ تُضَافَ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَعْنَى دَعْوَةُ الْمَدْعُوِّ الْحَقِّ الَّذِي يَسْمَعُ فَيُجِيبُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ وَكُلُّ دُعَاءٍ إِلَيْهِ فَهُوَ دَعْوَةُ الْحَقِّ.

ثم قال تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يَعْنِي الْآلِهَةَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ دُونِ اللَّهِ: لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَطْلُبُونَهُ إِلَّا اسْتِجَابَةً كَاسْتِجَابَةِ بَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْمَاءُ جَمَادٌ لَا يَشْعُرُ بِبَسْطِ كَفَّيْهِ وَلَا بِعَطَشِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُجِيبَ دُعَاءَهُ وَيَبْلُغَ فَاهُ، فَكَذَلِكَ مَا يَدْعُونَهُ جَمَادٌ، لَا يُحِسُّ بِدُعَائِهِمْ وَلَا يَسْتَطِيعُ إِجَابَتَهُمْ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَقِيلَ شُبِّهُوا فِي قِلَّةِ فائد دُعَائِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ، بِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَغْرِفَ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ لِيَشْرَبَهُ فَيَبْسُطُهَا نَاشِرًا أَصَابِعَهُ وَلَمْ تَصِلْ كَفَّاهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَلَمْ يَبْلُغْ مَطْلُوبَهُ مِنْ شُرْبِهِ، وَقُرِئَ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ كَباسِطِ كَفَّيْهِ بِالتَّنْوِينِ، ثم قال: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أَيْ إِلَّا فِي ضَيَاعٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ دَعَوُا اللَّهَ لَمْ يُجِبْهُمْ وَإِنْ دَعَوُا الْآلِهَةَ لَمْ تَسْتَطِعْ إِجَابَتَهُمْ.

[[سورة الرعد (١٣) : آية ١٥]]

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا السُّجُودِ قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السُّجُودُ بِمَعْنَى وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا الوجه فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ وَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ طَوْعًا بِسُهُولَةٍ وَنَشَاطٍ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْجُدُ لِلَّهِ كَرْهًا لِصُعُوبَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى أَدَاءِ تِلْكَ الطَّاعَةِ شَاءَ أَمْ أَبَى. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَيْضًا الْعَامُّ وَعَلَى هَذَا فَفِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ من في السموات وَالْأَرْضِ يَسْجُدُ لِلَّهِ بَلِ الْمَلَائِكَةُ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَلَا يَسْجُدُونَ.

الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ/ أَيْ وَيَجِبُ على كل من في السموات وَالْأَرْضِ أَنْ يَسْجُدَ لِلَّهِ فَعَبَّرَ عَنِ الْوُجُوبِ بِالْوُقُوعِ وَالْحُصُولِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السُّجُودِ التَّعْظِيمُ وَالِاعْتِرَافُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَكُلُّ مَنْ فِي السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْتَرِفُونَ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: ٢٥] .

وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ السُّجُودَ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ وَعَدَمِ الِامْتِنَاعِ وَكُلُّ من في السموات وَالْأَرْضِ سَاجِدٌ لِلَّهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ نَافِذَةٌ فِي الْكُلِّ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ هُوَ الَّذِي تَكُونُ مَاهِيَّتُهُ قَابِلَةً لِلْعَدَمِ وَالْوُجُودِ عَلَى السَّوِيَّةِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ رُجْحَانُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، إِلَّا بِتَأْثِيرِ مَوْجُودٍ وَمُؤَثِّرٍ فَيَكُونُ وُجُودُ كُلِّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِإِيجَادِهِ وَعَدَمُ كُلِّ مَا سِوَاهُ بِإِعْدَامِهِ، فَتَأْثِيرُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فِي طَرَفَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، وَذَلِكَ هُوَ السُّجُودُ

<<  <  ج: ص:  >  >>