للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِمَّا بِإِخْفَاءِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، فَقَوْلُهُ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي أَمَّا لَبْسُ الْحَقِّ بالباطل فإنه يحتمل هاهنا وجوهاًأحدها: تَحْرِيفُ التَّوْرَاةِ، فَيَخْلِطُونَ الْمُنَزَّلَ بِالْمُحَرَّفِ، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ تَوَاضَعُوا عَلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ الرُّجُوعِ عَنْهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، / تَشْكِيكًا لِلنَّاسِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي التَّوْرَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبِشَارَةِ وَالنَّعْتِ وَالصِّفَةِ وَيَكُونُ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا مَا يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ فَيُلَبِّسُونَ عَلَى الضُّعَفَاءِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ، وَهَذَا قَوْلُ القاضي ورابعها: أنهم كانوا يقولون محمداً مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقٌّ، ثُمَّ إِنَّ التَّوْرَاةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُنْسَخُ وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْقَاءٌ لِلشُّبُهَاتِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَوْجُودَةَ فِي التَّوْرَاةِ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مُفْتَقِرًا إِلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي إِخْفَاءِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كَانَ بِمَجْمُوعِهَا يَتِمُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ مِثْلَ مَا أَنَّ أَهْلَ الْبِدْعَةِ فِي زَمَانِنَا يَسْعَوْنَ فِي أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى عَوَامِّهِمْ دَلَائِلُ الْمُحَقِّقِينَ.

أَمَّا قَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عِنَادًا وَحَسَدًا وَثَانِيهَا:

وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ أَنْتُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَا أَرْبَابُ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَةِ وَثَالِثُهَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِقَابَ مَنْ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَظِيمٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قوله تعالى: لِمَ تَكْفُرُونَ ولِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَهُ فِيهِمْ، ثُمَّ يَقُولَ: لِمَ فَعَلْتُمْ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِيَةِ فَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ إِنْ حَدَثَتْ لَا لِمُحْدِثٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثُهَا هُوَ الْعَبْدَ افْتَقَرَ إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ مُحْدِثُهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَزِمَكُمْ ما ألزمتموه علينا والله أعلم.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٢]]

وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِأَنْ حَكَى عَنْهُمْ نَوْعًا وَاحِدًا مِنْ أَنْوَاعِ تَلْبِيسَاتِهِمْ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ مَا أُنْزِلَ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْضَ مَا أُنْزِلَ.

أما الاحتمال الأول: ففيه وجوه الأول: أن الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اسْتَخْرَجُوا حِيلَةً فِي/ تَشْكِيكِ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرُوا تَصْدِيقَ مَا يَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ يُظْهِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ تَكْذِيبَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ مَتَى شَاهَدُوا هَذَا التَّكْذِيبَ، قَالُوا: هَذَا التَّكْذِيبُ لَيْسَ لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ، وَإِلَّا لَمَا آمَنُوا بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّكْذِيبُ لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقَدْ تَفَكَّرُوا فِي أَمْرِهِ وَاسْتَقْصَوْا فِي الْبَحْثِ عَنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ فَلَاحَ لَهُمْ بَعْدَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ، وَالْبَحْثِ الْوَافِي أَنَّهُ كَذَّابٌ، فَيَصِيرُ هَذَا الطَّرِيقُ شُبْهَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَقِيلَ: تَوَاطَأَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ خَيْبَرَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ.