للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَاجَاتِ الْعِبَادِ وَقَادِرٌ عَلَى دَفْعِهَا وَإِبْدَالِهَا بِالْخَيْرَاتِ وَالرَّاحَاتِ، وَهُوَ لَيْسَ بَخِيلًا وَلَا مُحْتَاجًا حَتَّى يَمْنَعَهُ بُخْلُهُ وَحَاجَتُهُ عَنْ إِعْطَاءِ ذَلِكَ الْمُرَادِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَدْفَعُ الْآفَاتِ وَيُزِيلُ الْبَلِيَّاتِ وَيُوَصِّلُ إِلَيْهِ كُلَّ الْمُرَادَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْمُقَدِّمَةَ رَتَّبَ عَلَيْهَا النَّتِيجَةَ الْمَطْلُوبَةَ فَقَالَ:

وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ كَافٍ عَبْدَهُ كَانَ التَّخْوِيفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَبَثًا وَبَاطِلًا، قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ (عَبْدَهُ) بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَيُخَوِّفُونَكَ

رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ تُخْبِلَكَ آلِهَتُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،

وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ: عِبَادَهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْعِبَادِ الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّ نُوحًا كَفَاهُ الْغَرَقَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّارَ، وَيُونُسَ بِالْإِنْجَاءِ مِمَّا وَقَعَ لَهُ، فَهُوَ تَعَالَى كَافِيكَ يَا مُحَمَّدُ كَمَا كَفَى هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ قَبْلَكَ، وَقِيلَ أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ قَصَدُوهُمْ بِالسُّوءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ [غَافِرٍ: ٥] وَكَفَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ مَنْ عَادَاهُمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي شَرْحِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ وَالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِخَاتِمَةٍ هِيَ الْفَصْلُ الْحَقُّ فَقَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يَعْنِي هَذَا الْفَضْلُ لَا يَنْفَعُ وَالْبَيِّنَاتُ إِلَّا إِذَا خَصَّ اللَّهُ الْعَبْدَ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ تَهْدِيدٌ لِلْكُفَّارِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ وَالْمَبَاحِثُ فِيهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مَعْلُومَةٌ وَالْمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ/ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ وَلَوْ كَانَ الْخَالِقُ لِلْكُفْرِ فِيهِمْ هُوَ اللَّهَ لكان الانتقام والتهديد غير لائق به.

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي وَعْدِ الْمُوَحِّدِينَ، عَادَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَزْيِيفِ طَرِيقَةِ عَبْدَةِ الْأَصْنَامِ، وَبَنَى هَذَا التَّزْيِيفَ عَلَى أَصْلَيْنِ:

الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مُقِرُّونَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْخَلَائِقِ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَفِطْرَةُ الْعَقْلِ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ هَذَا الْعِلْمِ فَإِنَّ مَنْ تأمل في عجائب أحوال السموات وَالْأَرْضِ وَفِي عَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ خَاصَّةً وَفِي عَجَائِبِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِكَمِ الْغَرِيبَةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَجِيبَةِ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الرحيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>