للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ وَأَرْذَلُهَا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَصَفَ الْمُصَدِّقِينَ بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ.

الْحُكْمُ الثَّانِي: للمصدقين قوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ، وَهَذَا الْوَعْدُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يَرْغَبُ الْمُكَلَّفُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ مَرْغُوبٌ فِيهِ لِذَاتِهِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ فَإِذَا شَاهَدُوا الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ الَّتِي هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَأَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ عَرَفُوا أَنَّهَا خَيْرَاتٌ عَالِيَةٌ وَدَرَجَاتٌ كَامِلَةٌ، وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَمَالٌ، وَخَيْرٌ يُوجِبُ الْمَيْلَ إِلَيْهِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمْ يَشَاءُونَ حُصُولَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ لِأَنْفُسِهِمْ فَوَجَبَ حُصُولُهَا لَهُمْ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُرَادُ كَانُوا فِي الْغُصَّةِ وَوَحْشَةِ الْقَلْبِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزِيلُ الْحِقْدَ وَالْحَسَدَ عَنْ قُلُوبِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَحْوَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالُوا إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى لَا شَكَّ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يُرِيدُ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ له ذلك لقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَإِنْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَشَاءُونَ ذَلِكَ، قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَعْظَمُ وُجُوهِ التَّجَلِّي وَزَوَالِ الْحِجَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا حَالَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ نَظَرًا إِلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ لَوْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ كَوْنُ هَذَا الْمَطْلُوبِ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ لِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُتْرَكُ طَلَبُهُ، لَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْمُقْتَضِي لِلطَّلَبِ، بَلْ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُمْتَنِعًا فِي نَفْسِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَائِمَةٌ وَالنَّصُّ يَقْتَضِي حُصُولَ كُلِّ مَا أَرَادُوهُ وَشَاءُوهُ فَوَجَبَ حُصُولُهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ لَا يُفِيدُ الْعِنْدِيَّةَ بِمَعْنَى الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ بَلْ بِمَعْنَى الصَّمَدِيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: ٥٥] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ.

الْحُكْمُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ فقوله: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ/ وَقَوْلُهُ:

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ إِذَا صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أُوتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ الْكُفْرُ السَّابِقُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَيُوَصِّلُ إِلَيْهِمْ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ يَجْزِيهِمْ بِالْمَحَاسِنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَجْزِيهِمْ بِالْمَسَاوِئِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُقَاتِلًا كَانَ شَيْخَ الْمُرْجِئَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ، كَمَا لَا يَنْفَعُ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مَعَ الْكُفْرِ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عملوا، ولا جوز حَمْلُ هَذَا الْأَسْوَأِ عَلَى الْكُفْرِ السَّابِقِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي حَالِ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالتَّقْوَى وَهُوَ التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ عَنْهُمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ أَسْوَأَ مَا يَأْتُونَ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْكَبَائِرُ.

الْحُكْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْمُبْطِلِينَ يُخَوِّفُونَ الْمُحِقِّينَ بِالتَّخْوِيفَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَحَسَمَ اللَّهُ مَادَّةَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ فَهُوَ تعالى عالم

<<  <  ج: ص:  >  >>