للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اسْتَجَابَ النَّاسُ لِذَلِكَ الدِّينِ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أَيْ بَاطِلَةٌ وَتِلْكَ الْمُخَاصَمَةُ هِيَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ الْأَخْذَ بِالْمُتَّفَقِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُخْتَلَفِ؟ فَنُبُوَّةُ مُوسَى وَحَقِّيَّةُ التَّوْرَاةِ مَعْلُومَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَنُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ لَيْسَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، فَإِذَا بَنَيْتُمْ كَلَامَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمُتَّفَقِ أَوْلَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ بِالْيَهُودِيَّةِ أَوْلَى، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ دَاحِضَةٌ، أَيْ بَاطِلَةٌ فَاسِدَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَجْلِ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى وَفْقِ قوله، وهاهنا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْيَهُودُ شَاهَدُوا تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ، فَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ، فَهَهُنَا يَجِبُ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ وَجَبَ فِي حَقِّ مُوسَى أَنْ لَا يُقِرُّوا بِنُبُوَّتِهِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَالْإِصْرَارُ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ يَكُونُ مُتَنَاقِضًا، وَلَمَّا قَرَّرَ اللَّهُ هَذِهِ الدَّلَائِلَ خَوَّفَ الْمُنْكِرِينَ بِعَذَابِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَأَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَهُوَ الْفَصْلُ الَّذِي هُوَ الْقِسْطَاسُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِيَامَةَ مَتَى تُفَاجِئُهُمْ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَجِدَّ وَيَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَيَتْرُكَ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ يُهَدِّدُهُمْ بِنُزُولِ الْقِيَامَةِ وَأَكْثَرَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا مِنْهُ أَثَرًا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ: فَمَتَى تَقُومُ الْقِيَامَةُ، وَلَيْتَهَا قَامَتْ حَتَّى يَظْهَرَ لَنَا أَنَّ الْحَقَّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ أَوِ الَّذِي عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، فَلِدَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها والمعنى ظهر، وَإِنَّمَا يُشْفِقُونَ وَيَخَافُونَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ عِنْدَهَا تَمْتَنِعُ التَّوْبَةُ، وَأَمَّا مُنْكِرُ الْبَعْثِ فَلِأَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الْخَوْفُ.

ثُمَّ قَالَ: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ والممارة الْمُلَاجَّةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ/ تَدْخُلُهُمُ الْمِرْيَةُ وَالشَّكُّ فِي وُقُوعِ السَّاعَةِ، فَيُمَارُونَ فِيهَا وَيَجْحَدُونَ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ حَقِّ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ وَاجِبٌ فِي الْعَدْلِ، فَلَوْ لَمْ تَحْصُلِ الْقِيَامَةُ لَزِمَ إِسْنَادُ الظُّلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالَاتِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ إِنْكَارُ الْقِيَامَةِ ضَلَالًا بَعِيدًا.

ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أَيْ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ بِهِمْ، وَإِنَّمَا حسن ذكر هذا الكلام هاهنا لِأَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ اللَّطِيفَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَأَيْضًا الْمُتَفَرِّقُونَ اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخَّرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ إِيصَالِ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ وَدَفْعِ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، لَا جَرَمَ حَسُنَ ذِكْرُهُ هاهنا، ثُمَّ قَالَ: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِحْسَانُ بِالْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، وَإِعْطَاءِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الرِّزْقِ، وَدَفْعِ أَكْثَرِ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ عَنْهُمْ، فَأَمَّا مَرَاتِبُ الْعَطِيَّةِ وَالْبَهْجَةِ فَمُتَفَاوِتَةٌ مُخْتَلِفَةٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْقَوِيُّ أَيِ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب ولا يدافع.

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]

مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤)

وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>