وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ فَالتَّخْفِيفُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [هُودٍ: ٥٧] وَالتَّشْدِيدُ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الْمَائِدَةِ: ٦٧] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَبَيْنَ النَّصِيحَةِ هُوَ أَنَّ تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنْوَاعَ تَكَالِيفِ اللَّهِ وَأَقْسَامَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَأَمَّا النَّصِيحَةُ: فَهُوَ أَنَّهُ يُرَغِّبُهُ فِي الطَّاعَةِ وَيُحَذِّرُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَيَسْعَى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه وَقَوْلُهُ: رِسالاتِ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَمَّلَهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الرِّسَالَةِ وَهِيَ أَقْسَامُ التَّكَالِيفِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَشَرْحُ مَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ فِي الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ: وَأَنْصَحُ لَكُمْ قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ: نَصَحْتُكَ إِنَّمَا تَقُولُ:
نَصَحْتُ لَكَ وَيَجُوزُ أَيْضًا نَصَحْتُكَ. قَالَ النَّابِغَةُ:
نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا ... رَسُولِي وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ رَسَائِلِي
وَحَقِيقَةُ النُّصْحِ الْإِرْسَالُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ مَعَ خُلُوصِ النِّيَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَعْنَى: أَنِّي أُبَلِّغُ إِلَيْكُمْ تَكَالِيفَ اللَّهِ ثُمَّ أُرْشِدُكُمْ إِلَى الْأَصْوَبِ الْأَصْلَحِ وَأَدْعُوكُمْ إِلَى مَا دَعَانِي وأحب إِلَيْكُمْ مَا أُحِبَّهُ لِنَفْسِي.
ثُمَّ قَالَ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ إِنْ عَصَيْتُمْ أَمْرَهُ عَاقَبَكُمْ بِالطُّوفَانِ. الثَّانِي: وَأَعْلَمُ أَنَّهُ يُعَاقِبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عِقَابًا شَدِيدًا خَارِجًا عَمَّا تَتَصَوَّرُهُ عُقُولُكُمْ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَأَعْلَمُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِ جَلَالِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ: حَمْلَ الْقَوْمِ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ فِي طَلَبِ تِلْكَ العلوم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْقَوْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف: ٦٠] هُوَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهُ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ إِلَى الضَّلَالِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ رَسُولٌ إِلَى خَلْقِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِرْسَالِ هُوَ التَّكْلِيفُ وَالتَّكْلِيفُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْمَعْبُودِ لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْعَابِدِ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ يُوجِبُ الْمَضَرَّةَ الْعَظِيمَةَ وَكُلُّ مَا يُرْجَى فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَدَفْعِ الْعِقَابِ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ عَبَثًا وَاللَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْعَبَثِ وَإِذَا بَطَلَ التَّكْلِيفُ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ وَإِنْ جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا عُلِمَ حُسْنُهُ بِالْعَقْلِ فَعَلْنَاهُ وَمَا عُلِمَ قُبْحُهُ تَرَكْنَاهُ وَمَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ لَا حُسْنَهُ وَلَا قُبْحَهُ فَإِنْ كُنَّا مُضْطَرِّينَ إِلَيْهِ فَعَلْنَاهُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُكَلِّفَ عَبْدَهُ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَكُنْ مُضْطَرِّينَ إِلَيْهِ تَرَكْنَاهُ لِلْحَذَرِ عَنْ خَطَرِ الْعِقَابِ وَلَمَّا كَانَ رَسُولُ الْعَقْلِ كَافِيًا فَلَا حَاجَةَ إِلَى بِعْثَةِ رَسُولٍ آخَرَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الرَّسُولِ فَإِنَّ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ أَوْلَى لِأَنَّ مَهَابَتَهُمْ أَشَدُّ وَطَهَارَاتِهِمْ أَكْمَلُ وَاسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ أَظْهَرُ وَبُعْدَهُمْ عَنِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ أَعْظَمُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ: أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ فَلَعَلَّ الْقَوْمَ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَنْ كَانَ فَقِيرًا ولم يكن له تبع ورئاسة فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute