للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ:

أَنَّهُ الْخَيْلُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا.

قَالَ الْكَلْبِيُّ. بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى أُنَاسٍ مِنْ كِنَانَةَ فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ لَا يَأْتِيهِ مِنْهُمْ خَبَرٌ فَتَخَوَّفَ عَلَيْهَا فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَبَرِ مَسِيرِهَا

فَإِنْ جَعَلْنَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي: وَالْعادِياتِ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ كَانَ مَحَلُّ الْقَسَمِ خَيْلَ تِلْكَ السَّرِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُمَا لِلْجِنْسِ كَانَ ذَلِكَ قَسَمًا بِكُلِّ خَيْلٍ عَدَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ هَذِهِ الْآيَاتِ تُنَادِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَيْلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّبْحَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْفَرَسِ، وَاسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْإِبِلِ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا اسْتُعِيرَ الْمَشَافِرُ وَالْحَافِرُ لِلْإِنْسَانِ، وَالشَّفَتَانِ لِلْمُهْرِ، وَالْعُدُولُ مِنَ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا فَالْقَدْحُ يَظْهَرُ بِالْحَافِرِ مَا لَا يَظْهَرُ بِخُفِّ الْإِبِلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً لِأَنَّهُ بِالْخَيْلِ أَسْهَلُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ السَّرَايَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقِتَالِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَهَهُنَا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَقْسَمَ بِالْخَيْلِ لِأَنَّ لَهَا فِي الْعَدْوِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ مَا لَيْسَ لِسَائِرِ الدَّوَابِّ، فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِلطَّلَبِ وَالْهَرَبِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ، فَإِذَا ظَنَنْتَ أَنَّ النَّفْعَ فِي الطَّلَبِ عَدَوْتَ إِلَى الْخَصْمِ لِتَفُوزَ بِالْغَنِيمَةِ، وَإِذَا ظَنَنْتَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْهَرَبِ قَدَرْتَ عَلَى أَشَدِّ الْعَدْوِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّلَامَةَ إِحْدَى الْغَنِيمَتَيْنِ، فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِفَرَسِ الْغَازِي لِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهُ لَا لِلزِّينَةِ وَالتَّفَاخُرِ، بَلْ لِهَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلُهُ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النَّحْلِ: ٨] فَأَدْخَلَ لَامَ التَّعْلِيلِ عَلَى الرُّكُوبِ وَمَا أَدْخَلَهُ على الزينة وإنما قال: صُبْحاً لِأَنَّهُ أَمَارَةٌ يُظْهِرُ بِهِ التَّعَبَ وَأَنَّهُ يَبْذُلُ كُلَّ الْوُسْعِ وَلَا يَقِفُ عِنْدَ التَّعَبِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ لَا يَتْرُكُ طَاعَتَكَ، فَلْيَكُنِ الْعَبْدُ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ أَيْضًا كَذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي انْتِصَابِ ضَبْحاً وجوها أحدها: قال الزجاج: والعاديات تضبح ضبحاو ثانيها: أَنْ يَكُونَ وَالْعادِياتِ فِي مَعْنَى وَالضَّابِحَاتِ، لِأَنَّ الضَّبْحَ يَكُونُ مَعَ الْعَدْوِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: التَّقْدِيرُ: وَالْعَادِيَاتِ ضَابِحَةً، فَقَوْلُهُ: ضَبْحاً نصب على الحال. أما قوله تعالى:

[[سورة العاديات (١٠٠) : آية ٢]]

فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢)

فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِيرَاءَ إِخْرَاجُ النَّارِ، والقدح الصك تقول: قدح فأورى وقدح فَأَصْلَدَ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ ضَرْبَ الْخَيْلِ بِحَوَافِرِهَا الْجَبَلَ فَأَوْرَتْ مِنْهُ النَّارَ مِثْلَ الزَّنْدِ إِذَا قُدِحَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ:

يَعْنِي الْخَيْلَ تَقْدَحْنَ بِحَوَافِرِهِنَّ فِي الْحِجَارَةِ نَارًا كَنَارِ الْحُبَاحِبِ «١» وَالْحُبَاحِبُ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ بَخِيلًا لَا يُوقِدُ النَّارَ إِلَّا إِذَا نَامَ النَّاسُ، فَإِذَا انْتَبَهَ أَحَدٌ أَطْفَأَ نَارَهُ لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِهَا أَحَدٌ فَشُبِّهَتْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي تَنْقَدِحُ مِنْ حَوَافِرِ الْخَيْلِ بِتِلْكَ النَّارِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَفْعٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَعْلُ الْحَدِيدِ يَصُكُّ الحجر فتخرج النار، والأول أبلغ لأن


(١) ويقال: الحباحب طائر صغير كالذبابة تضيء ليلا فيظنه الرائي نارا.

<<  <  ج: ص:  >  >>