التَّعْذِيبَ عَلَى الْإِثَابَةِ، فَنَقُولُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُوَفِّقُنَا لِبَيَانِ ذَلِكَ نُبَيِّنُ مَا اقْتَضَى تَقْدِيمَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ لِمَعْنًى وَكُلُّ تَرْتِيبٍ وُجِدَ فَهُوَ لِحِكْمَةٍ، وَمَا ذُكِرَ عَلَى خِلَافِهِ لَا يَكُونُ فِي دَرَجَةِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَلْنُبَيِّنْ مِنْ جُمْلَتِهِ مِثَالًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ [الرُّومِ: ١٤، ١٥] قَدَّمَ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْكَافِرِ، وَهَاهُنَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: ٤٣] أَيْ يَتَفَرَّقُونَ فَقَدَّمَ الْكَافِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَنَقُولُ هُنَاكَ أَيْضًا قَدَّمَ الْكَافِرَ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ قَبْلُ:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الرُّومِ: ١٢] فَذَكَرَ الْكَافِرَ وَإِبْلَاسَهُ، ثُمَّ قَالَ تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: ١٤] فَكَانَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِ وَحْدَهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ التَّفَرُّقِ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَادَ ذِكْرَ الْمُجْرِمِينَ مَرَّةً أخرى للتفصيل فقال: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. ثم قال تعالى:
[[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٦]]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ ظُهُورَ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ/ بِسَبَبِ الشِّرْكِ ذَكَرَ ظُهُورَ الصَّلَاحِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَذْكُرُ لِإِحْسَانِهِ عِوَضًا، وَيَذْكُرُ لِأَضْرَارِهِ سَبَبًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِهِ الظُّلْمُ فَقَالَ: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ قِيلَ بِالْمَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: ٥٧] أَيْ قَبْلَ الْمَطَرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُبَشِّرَاتٍ بِصَلَاحِ الْأَهْوِيَةِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنَّ الرِّيَاحَ لَوْ لَمْ تَهُبَّ لَظَهَرَ الْوَبَاءُ وَالْفَسَادُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ عَطْفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَيْ لِيُبَشِّرَكُمْ بِصَلَاحِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْمَطَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِذَاقَةَ تُقَالُ فِي الْقَلِيلِ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الدُّنْيَا قَلِيلًا وَرَاحَتُهَا نَزْرٌ قَالَ: وَلِيُذِيقَكُمْ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَرْزُقُهُمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ وَيُدِيمُ لَهُمْ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَمَّا أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْفُلْكِ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ أَيِ الْفِعْلُ ظَاهِرًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ: وَلِتَبْتَغُوا مُسْنَدًا إِلَى الْعِبَادِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ لَا اسْتِقْلَالَ لِشَيْءٍ بِشَيْءٍ وَفِي الآية مسائل:
الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ فَنَقُولُ فِي الرِّيَاحِ فَوَائِدُ، مِنْهَا إِصْلَاحُ الْهَوَاءِ، وَمِنْهَا إِثَارَةُ السَّحَابِ، وَمِنْهَا جَرَيَانُ الْفُلْكِ بِهَا فَقَالَ: مُبَشِّراتٍ بِإِصْلَاحِ الْهَوَاءِ فَإِنَّ إِصْلَاحَ الْهَوَاءِ يُوجَدُ مِنْ نَفْسِ الْهُبُوبِ ثُمَّ الْأَمْطَارُ بَعْدَهُ، ثُمَّ جَرَيَانُ الْفُلْكِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِبَارٍ مِنَ الْآدَمِيِّ بِإِصْلَاحِ السُّفُنِ وَإِلْقَائِهَا عَلَى الْبَحْرِ ثُمَّ ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ بِرُكُوبِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ظَهَرَ الْفَسادُ ... لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الرُّومِ: ٤١] وَقَالَ هَاهُنَا وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ فَخَاطَبَ هَاهُنَا تَشْرِيفًا وَلِأَنَّ رَحْمَتَهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَالْمُحْسِنُ قَرِيبٌ فَيُخَاطَبُ وَالْمُسِيءُ بَعِيدٌ فَلَمْ يُخَاطِبْهُمْ، وَأَيْضًا قَالَ هُنَاكَ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا وَقَالَ هَاهُنَا مِنْ رَحْمَتِهِ فَأَضَافَ مَا أَصَابَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَضَافَ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ إِلَى رَحْمَتِهِ وَفِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَذْكُرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute