للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الشَّيْءُ كَأَنَّهُ غَلَبَهُ فَعَجَزَ عَنْهُ، وَكَلِمَةُ عَلَى فِي هَذَا الْوَجْهِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْمُسَابَقَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ مَنْ سَبَقَ غَيْرَهُ عَلَى أَمْرٍ فَهُوَ الْغَالِبُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَدَّرْنا وَتَقْدِيرُهُ: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ عَلَى وَجْهِ التَّبْدِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ قَطْعِ النَّسْلِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: خَرَجَ فُلَانٌ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَاجِلًا، أَيْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَرَجَ، وَتَعَلُّقُ كَلِمَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ، فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ لَا إِشْكَالَ فِي تَبْدِيلِ أَمْثَالِكُمْ، أَيْ أَشْكَالِكُمْ وَأَوْصَافِكُمْ، وَيَكُونُ الْأَمْثَالُ جَمْعَ مِثْلٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَمَا نَحْنُ بِعَاجِزِينَ عَلَى أَنْ نَمْسَخَكُمْ، وَنَجْعَلَكُمْ فِي صُورَةِ قِرَدَةٍ وَخَنَازِيرَ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ [يس: ٦٧] وَعَلَى مَا قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ الْمَسْبُوقِينَ، وَجَعَلْتُ الْمُتَعَلِّقَ لِقَوْلِهِ: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ

هُوَ قَوْلَهُ: نَحْنُ قَدَّرْنا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ

مَعْنَاهُ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَهُمْ لَا عَلَى عَمَلِهِمْ، نَقُولُ: هَذَا إِيرَادٌ وَارِدٌ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ بِأَسْرِهِمْ إِذَا فَسَّرُوا الْأَمْثَالَ بِجَمْعِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: ٣٨] وَقَوْلِهِ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا [الْإِنْسَانِ: ٢٨] فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِذا دَلِيلُ الْوُقُوعِ، وَتَغَيُّرُ أَوْصَافِهِمْ بِالْمَسْخِ لَيْسَ أَمْرًا يَقَعُ وَالْجَوَابُ: أَنْ يُقَالَ: الْأَمْثَالُ/ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مِثْلٍ، وَإِمَّا جَمْعَ مَثَلٍ، فَإِنْ كَانَ جَمْعَ مِثْلٍ فَنَقُولُ مَعْنَاهُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ نُغَيِّرَ أَوْصَافَكُمْ فَتَكُونُوا أَطْفَالًا، ثُمَّ شُبَّانًا، ثُمَّ كُهُولًا، ثُمَّ شُيُوخًا، ثُمَّ يُدْرِكَكُمُ الْأَجَلُ، وَمَا قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُهْلِكَكُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا إِذَا جَاءَ وَقْتُ ذَلِكَ فَتُهْلَكُونَ بِنَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ جَمْعُ مَثَلٍ فَنَقُولُ مَعْنَى: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ

نَجْعَلُ أَمْثَالَكُمْ بَدَلًا وَبَدَّلَهُ بِمَعْنَى جَعَلَهُ بَدَلًا، وَلَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ: بَدَّلْنَاكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّا جَعَلْنَا بَدَلًا فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفَنَاءِ عَلَيْهِمْ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: جَعَلْتُ كَذَا بَدَلًا لَا تَتِمُّ فَائِدَتُهُ إِلَّا إِذَا قَالَ: جَعَلْتُهُ بَدَلًا عَنْ كَذَا لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ

فَالْمَثَلُ يَدُلُّ عَلَى الْمَثَلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَا أَمْثَالَكُمْ بَدَلًا لَكُمْ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ نُقَدِّرِ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُفْنِيَ الْخَلْقَ دُفْعَةً بَلْ قَدَّرْنَاهُ عَلَى أَنْ نَجْعَلَ مَثَلَهُمْ بَدَلَهُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ نُهْلِكَهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نُنْشِئَهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ

عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْأَوْصَافِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ

مِنَ الْأَوْصَافِ وَالزَّمَانِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَتَى يَمُوتُ وَمَتَى يُنْشَأُ أَوْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَتَى السَّاعَةُ وَالْإِنْشَاءُ؟ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِمَا، هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مَا ذُكِرَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ

تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الواقعة: ٥٩] وكأنه قال: كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وَكَيْفَ يَكُونُ خَالِقُ الشَّيْءِ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ؟ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النَّجْمِ: ٣٢] وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ وَالْإِنْشَاءَ وَهُوَ الْمَوْتُ وَالْحَشْرُ إِذَا كَانَ وَاقِعًا فِي زَمَانٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَّكِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَلَا يَغْفُلَ عَنْ إِعْدَادِ الْعُدَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى تَقْرِيرًا لِإِمْكَانِ النَّشْأَةِ الثانية. ثم قال تعالى:

[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)

<<  <  ج: ص:  >  >>