ذَهَبَ الشَّبَابُ وَأَخْلَقَ الْعُمْرُ
وَعَمَّرَ الرَّجُلُ يُعَمِّرُ عَمْرًا وَعُمْرًا، فَإِذَا أَقْسَمُوا بِهِ قَالُوا: لَعَمْرُكَ وَعَمْرُكَ فَتَحُوا الْعَيْنَ لَا غَيْرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
لِأَنَّ الْفَتْحَ أَخَفُّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُكْثِرُونَ الْقَسَمَ بِلَعَمْرِي وَلَعَمْرُكَ فَالْتَزَمُوا الْأَخَفَّ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أَيْ فِي غَوَايَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، أَيْ يَتَحَيَّرُونَ فَكَيْفَ يَقْبَلُونَ قَوْلَكَ، وَيَلْتَفِتُونَ إِلَى نَصِيحَتِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ وَمَا أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّحْوِيُّونَ: ارْتَفَعَ قَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: لَعَمْرُكَ قَسَمِي وَحُذِفَ الْخَبَرُ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَبَابُ الْقَسَمِ يُحْذَفُ مِنْهُ الْفِعْلُ نَحْوَ: بِاللَّهِ لِأَفْعَلَنَّ، وَالْمَعْنَى: أَحْلِفُ بِاللَّهِ فَيُحْذَفُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِأَنَّكَ حَالِفٌ.
ثم قال تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أَيْ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَوِيٍّ قِيلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ مُهْلِكَةٌ وَقَوْلُهُ: مُشْرِقِينَ يُقَالُ شَرَّقَ الشَّارِقُ يُشَرِّقُ شُرُوقًا لِكُلِّ مَا طَلَعَ من جانب الشرق، ومنه قولهم ما ذكر شَارِقٌ أَيْ طَلَعَ طَالِعٌ فَقَوْلُهُ: مُشْرِقِينَ أَيْ دَاخِلِينَ فِي الشُّرُوقِ يُقَالُ أَشْرَقَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الشُّرُوقِ، وَهُوَ بُزُوغُ الشَّمْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَذَّبَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ: أَحَدُهَا: الصَّيْحَةُ الْهَائِلَةُ الْمُنْكَرَةُ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ هُودٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ يُقَالُ تَوَسَّمْتُ فِي فُلَانٍ خَيْرًا أَيْ رَأَيْتُ فِيهِ أَثَرًا مِنْهُ وَتَفَرَّسْتُهُ فِيهِ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمُتَوَسِّمِينَ قِيلَ: الْمُتَفَرِّسِينَ، وَقِيلَ: النَّاظِرِينَ، وَقِيلَ:
الْمُتَفَكِّرِينَ، وَقِيلَ: الْمُعْتَبِرِينَ، وَقِيلَ: الْمُتَبَصِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: حَقِيقَةُ الْمُتَوَسِّمِينَ فِي اللُّغَةِ الْمُتَثَبِّتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا سِمَةَ الشَّيْءِ وَصِفَتَهُ وَعَلَامَتَهُ، وَالْمُتَوَسِّمُ النَّاظِرُ فِي السِّمَةِ الدَّالَّةِ تَقُولُ: تَوَسَّمْتُ/ فِي فُلَانٍ كَذَا أَيْ عَرَفْتُ وَسْمَ ذَلِكَ وَسَمْتَهُ فِيهِ.
ثم قال: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّها عَائِدٌ إِلَى مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذكرها في قوله، وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ: لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أَيْ هَذِهِ الْقُرَى وَمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنْ آثَارِ قَهْرِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثَابِتٍ لَمْ يَنْدَرِسْ وَلَمْ يُخْفَ، وَالَّذِينَ يَمُرُّونَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ يُشَاهِدُونَهَا.
ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى انْتَقَمَ لِأَنْبِيَائِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ، أَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى حَوَادِثِ الْعَالَمِ وَوَقَائِعِهِ، وَعَلَى حُصُولِ القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)