للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

٨٩] وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ إِيجَابَ الْكَفَّارَةِ وَهَاهُنَا الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ هَذِهِ الصُّورَةَ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمُقَابِلَ لِلَّغْوِ هُوَ كَسْبَ الْقَلْبِ، وَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي حَلَفُوا عَلَيْهِ لِأَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ مُشْعِرٌ بِالشُّرُوعِ فِي فِعْلٍ جَدِيدٍ، فَأَمَّا الِاسْتِمْرَارُ عَلَى مَا كَانَ فَذَلِكَ لَا يُسَمَّى كَسْبَ الْقَلْبِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ: أَنَّهَا الْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ سُمِّيَتْ لَغْوًا لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَسْقَطَتِ الْإِثْمَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ إِذَا كَفَّرْتُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ.

الْقَوْلُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَقَعُ سَهْوًا غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أَيْ يُؤَاخِذُكُمْ إِذَا تَعَمَّدْتُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُقَابِلَ لِلْعَمْدِ هُوَ السَّهْوُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَقَالَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وَعَقْدُ الْيَمِينِ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَقْدَ الْقَلْبِ بِهِ، وَلِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ الَّذِي يُضَادُّ الْحَلَّ، فَلَمَّا ذَكَرَ هَاهُنَا قَوْلَهُ: بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ هُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ، وَأَيْضًا ذَكَرَ الْمُؤَاخَذَةَ هَاهُنَا، وَلَمْ يُبَيِّن أَنَّ تِلْكَ الْمُؤَاخَذَةَ مَا هِيَ، وَبَيَّنَهَا فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ هِيَ الْكَفَّارَةُ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُجْمَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ، مُبَيَّنَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَصَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفَسِّرَةً لِلْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ، وَحَصَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ وَرَبْطِ الْقَلْبِ، فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِيهَا، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ كَذَلِكَ فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةً فِيهَا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ: الْغَفُورَ، مُبَالَغَةٌ فِي سَتْرِ الذُّنُوبِ، وَفِي إِسْقَاطِ عُقُوبَتِهَا، وَأَمَّا: الْحَلِيمُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْحِلْمَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَنَاةُ وَالسُّكُونُ، يُقَالُ: ضَعِ الْهَوْدَجَ عَلَى أَحْلَمِ الْجِمَالِ، أَيْ عَلَى أَشَدِّهَا تُؤَدَةً فِي السَّيْرِ، وَمِنْهُ الْحُلْمُ لِأَنَّهُ يُرَى فِي حَالِ السُّكُونِ، وَحَلَمَةُ الثَّدْيِ، وَمَعْنَى:

الْحَلِيمِ، فِي صِفَةِ اللَّهِ: الَّذِي لَا يُعَجِّلُ بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٦ الى ٢٢٧]

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)

[الحكم العاشر فيما يتعلق بالإيلاء والطلاق]

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: آلَى يُؤَالِي إِيلَاءً، وَتَأَلَّى يَتَأَلَّى تَأَلِّيًا، وَائْتَلَى يَأْتَلِي ائْتِلَاءً، وَالِاسْمُ مِنْهُ أَلِيَّةٌ وَأَلُوَّةٌ، كِلَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ، وَحَكَى أبو عبيدة ألوة وألوة وألوة ثلاثة لُغَاتٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَلِيَّةُ وَالْقَسَمُ وَالْيَمِينُ، وَالْحَلِفُ، كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ،

وَفِي الْحَدِيثِ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «آلَيْتُ أَفْعَلُ خِلَافَ الْمُقَدِّرِينَ»

وقال كثير: