الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنْ لَبِثْتُمْ اللُّبْثُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ، فَقَالَ قَوْمٌ أَرَادُوا بِهِ اللُّبْثَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٢، ١١٣] فَإِنْ قِيلَ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ نَسُوا قَدْرَ لُبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ مَا نَسُوا ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ جَائِزٍ إِذْ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ خَمْسِينَ سَنَةً فِي بَلَدٍ ثُمَّ يَنْسَاهُ. وَالثَّانِي غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَأَهْلُ الْآخِرَةِ لَا يَكْذِبُونَ لَا سِيَّمَا وَهَذَا الْكَذِبُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَعَلَّهُمْ إِذَا حُشِرُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَعَايَنُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ فَلِشِدَّةِ وَقْعِهَا عَلَيْهِمْ ذَهَلُوا عَنْ مِقْدَارِ عُمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا ذَكَرُوا إِلَّا الْقَلِيلَ فَقَالُوا: لَيْتَنَا مَا عِشْنَا إِلَّا تِلْكَ الْأَيَّامَ الْقَلِيلَةَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا نَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَهْوَالِ، وَالْإِنْسَانُ عِنْدَ الْهَوْلِ الشَّدِيدِ قَدْ يَذْهَلُ عَنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ:
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣] . وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِمِقْدَارِ عُمُرِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا قَابَلُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَارِ الْآخِرَةِ وَجَدُوهَا فِي نِهَايَةِ الْقِلَّةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لَبِثْنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَقَالَ أَعْقَلُهُمْ: بَلْ مَا لَبِثْنَا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا أَيْ قَدْرُ لُبْثِنَا فِي الدُّنْيَا بِالْقِيَاسِ إِلَى قَدْرِ لُبْثِنَا فِي الْآخِرَةِ كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ بَلْ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ بَلْ كَالْعَدَمِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَشَرَةَ وَالْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ لأن القليل في أمثال هذه الواضع لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ إِلَّا بِالْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا الشَّدَائِدَ تَذَكَّرُوا أَيَّامَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ وَتَأَسَّفُوا عَلَيْهَا فَوَصَفُوهَا بِالْقِصَرِ لِأَنَّ أَيَّامَ السُّرُورِ قِصَارٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا قَدِ انْقَضَتْ وَأَيَّامَ الْآخِرَةِ مُسْتَقْبَلَةٌ وَالذَّاهِبُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ قَلِيلٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْآتِي وَإِنْ قَصُرَتْ مُدَّتُهُ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ رَجَّحَ اللَّه تَعَالَى قَوْلَ مَنْ بَالَغَ فِي التَّقْلِيلِ فَقَالَ: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اللُّبْثُ فِي الْقَبْرِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ [الرُّومِ: ٥٥] وَقَالَ: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الرُّومِ: ٥٦] فَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَلَا إِشْكَالَ لَهُ فِي الْآيَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ، قَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَحْيَاهُمْ فِي الْقَبْرِ وَعَذَّبَهُمْ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ بَعَثَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَعْرِفُوا أَنْ قَدْرَ لُبْثِهِمْ فِي الْقَبْرِ كَمْ كَانَ، فَخَطَرَ بِبَالِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَوْمٌ/ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَعُوا فِي الْعَذَابِ مَرَّةً أُخْرَى، تَمَنَّوْا زَمَانَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ زَمَانُ الْخَلَاصِ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ هَوْلِ الْعَذَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أَيْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَيَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أَقَلَّ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أَيْ عَشْرَ سَاعَاتٍ كَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النَّازِعَاتِ: ٤٦] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْيَوْمُ أَكْثَرَ، واللَّه أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَعْظَمَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَيْرَةِ الَّتِي دُفِعُوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١١٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (١٠٦) لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute