أَوَجَبَ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْخَمْسَةِ لَهَا صَلَاةً، فَأَوْجَبَ عِنْدَ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنَ الطُّلُوعِ صَلَاةَ الْفَجْرِ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ زَوَالِ تِلْكَ الظُّلْمَةِ وَحُصُولِ النُّورِ، وَبِسَبَبِ زَوَالِ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ كَالْمَوْتِ وَحُصُولِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ كَالْحَيَاةِ، وَلَمَّا وَصَلَتِ الشَّمْسُ إِلَى غَايَةِ الِارْتِفَاعِ ثُمَّ ظَهَرَ فِيهَا أَثَرُ الِانْحِطَاطِ أَوْجَبَ صَلَاةَ الظُّهْرِ تَعْظِيمًا لِلْخَالِقِ الْقَادِرِ عَلَى قَلْبِ أَحْوَالِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ مِنَ الضِّدِّ إِلَى الضِّدِّ، فَجَعَلَ الشَّمْسَ بَعْدَ غَايَةِ ارْتِفَاعِهَا وَاسْتِعْلَائِهَا مُنْحَطَّةً عَنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ وَآخِذَةً فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ الْخَفِيُّ، ثُمَّ لَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْكُهُولَةِ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الشَّيْخُوخَةِ أَوْجَبَ تَعَالَى صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَنِعْمَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّ أَوَّلَ الْعَصْرِ هُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ تَظْهَرُ النُّقْصَانَاتُ الظَّاهِرَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مَا ازْدَادَ الظل إلا مثل الشيء، ثم ان في زمان الطيف يَصِيرُ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يَصِيرُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلًا لَهُ تَأْخُذُ الشَّمْسُ فِي النُّقْصَانَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَشْبَهَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مَا إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ، فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَمَّا غَرَبَ الشَّفَقُ فَكَأَنَّهُ انْمَحَتْ آثَارُ الشَّمْسِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِيجَابَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ مُطَابِقٌ لِلْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأُصُولِ الحكمية، واللَّه أعلم بأسرار أفعاله.
[[سورة النساء (٤) : آية ١٠٤]]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُجَاهِدُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا عَادَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ فَقَالَ وَلا تَهِنُوا أَيْ وَلَا تَضْعُفُوا وَلَا تَتَوَانَوْا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أَيْ فِي طَلَبِ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ حُصُولَ الْأَلَمِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ خَوْفُ الْأَلَمِ مَانِعًا لَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ فَكَيْفَ صَارَ مَانِعًا لَكُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ، ثُمَّ زَادَ فِي تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى الْقِتَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُقِرُّونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالْمُشْرِكِينَ لَا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، فَإِذَا كَانُوا مَعَ إِنْكَارِهِمُ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ يُجِدُّونَ فِي الْقِتَالِ فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُقِرُّونَ بِأَنَّ لَكُمْ فِي هَذَا الْجِهَادِ ثَوَابًا عَظِيمًا وَعَلَيْكُمْ فِي تَرْكِهِ عِقَابًا عَظِيمًا، أَوْلَى بِأَنْ تَكُونُوا مُجِدِّينَ فِي هَذَا الْجِهَادِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الرَّجَاءِ مَا وَعَدَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: ٣٣] [الفتح: ٢٨] [الصف: ٩] وفي قوله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: ٦٤] وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ الْإِلَهَ الْعَالِمَ الْقَادِرَ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ فَيَصِحُّ مِنْكُمْ أَنْ تَرْجُوا ثَوَابَهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهِيَ جَمَادَاتٌ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَرْجُوا مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ ثَوَابًا أَوْ يَخَافُوا مِنْهَا عِقَابًا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى: وَلَا تَهِنُوا لِأَنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ تَعْلِيلٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ لَا يُكَلِّفُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَأْمُرُكُمْ وَلَا يَنْهَاكُمْ إِلَّا بِمَا هُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ/ سَبَبٌ لِصَلَاحِكُمْ في دينكم ودنياكم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute