للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحَصْبَاءِ مِثْلُ اللَّابِنِ وَالتَّامِرِ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا يَعْنِي لَا تَجِدُوا نَاصِرًا يَنْصُرُكُمْ وَيَصُونُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: أم أمنتم أن نعيدكم فِيهِ أَيْ فِي الْبَحْرِ تَارَةً أُخْرَى وَقَوْلُهُ: فنرسل عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ الْقَاصِفُ الْكَاسِرُ يُقَالُ: قَصَفَ الشَّيْءَ يَقْصِفُهُ قَصْفًا إِذَا كَسَرَهُ بِشِدَّةٍ، وَالْقَاصِفُ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي تَكْسِرُ الشَّجَرَ، وَأَرَادَ هاهنا ريحا شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله: فنغرقكم بِمَا كَفَرْتُمْ أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَا تَجِدُوا مَنْ يُتْبِعُنَا بِإِنْكَارِ مَا نَزَلْ بِكُمْ بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْكُمْ، وَتَبِيعٌ بِمَعْنَى تَابِعٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَلْفَاظٍ خَمْسَةٍ: وَهِيَ قَوْلِهِ: أَنْ نَخْسِفَ. أَوْ نُرْسِلَ. أَوْ نُعِيدُكُمْ. فَنُرْسِلَ.

فَنُغْرِقَكُمْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو جَمِيعَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِالنُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ عَلَى الْوَاحِدِ الْغَائِبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ وَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ فَلِأَنَّ هَذَا الْبَحْرَ مِنَ الْكَلَامِ، قَدْ يَنْقَطِعُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ وَهُوَ سَهْلٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ وَجَعَلْناهُ/ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٢] فَانْتَقَلَ مِنَ الجمع إلى الأفراد وكذلك هاهنا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم.

[[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٠]]

وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ نِعْمَةٍ أُخْرَى جَلِيلَةٍ رَفِيعَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي بِهَا فُضِّلَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ النَّفْسِ، وَالْبَدَنِ، فَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ أَشْرَفُ النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَبَدَنُهُ أَشْرَفُ الْأَجْسَامِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ.

وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ هِيَ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ قُوَاهَا الْأَصْلِيَّةُ ثَلَاثٌ. وَهِيَ الِاغْتِذَاءُ وَالنُّمُوُّ وَالتَّوْلِيدُ، وَالنَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ لَهَا قُوَّتَانِ الْحَسَاسَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ ظَاهِرَةً أَوْ بَاطِنَةً، وَالْحَرَكَةُ بِالِاخْتِيَارِ، فَهَذِهِ الْقُوَى الْخَمْسَةُ أَعْنِي الِاغْتِذَاءَ وَالنُّمُوَّ وَالتَّوْلِيدَ وَالْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ حَاصِلَةٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِقُوَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ الْمُدْرِكَةُ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ. وَهِيَ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا نُورُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُشْرِقُ فِيهَا ضَوْءُ كِبْرِيَائِهِ وَهُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِ عَالَمَيِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَيُحِيطُ بِأَقْسَامِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ كَمَا هِيَ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مِنْ تَلْقِيحِ الْجَوَاهِرِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَرْوَاحِ الْمُجَرَّدَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ الْقُوَّةُ لَا نِسْبَةَ لَهَا فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ إِلَى تِلْكَ الْقُوَى النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ أَشَرُفُ النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ فَضَائِلَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَنُقْصَانَاتِ الْقُوَى الْجِسْمِيَّةِ، فَتَأَمَّلَ مَا كَتَبْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: ٣٥] فَإِنَّا ذَكَرْنَا هُنَاكَ عِشْرِينَ وَجْهًا فِي بَيَانِ أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ أَجَلُّ وَأَعْلَى مِنَ الْقُوَّةِ الْجِسْمِيَّةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْبَدَنَ الْإِنْسَانِيَّ أَشْرَفُ أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَالْمُفَسِّرُونَ إِنَّمَا ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا: رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَأْكُلُ بِفِيهِ إِلَّا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ بِيَدَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّشِيدَ أُحْضِرَتْ عِنْدَهُ أَطْعِمَةٌ فَدَعَا بِالْمَلَاعِقِ وَعِنْدَهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَالَ لَهُ: جَاءَ فِي/ التَّفْسِيرِ عَنْ جِدِّكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ جَعَلْنَا

<<  <  ج: ص:  >  >>