للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِيهَا وَلَا يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُفُورِ هُوَ الْكُفْرُ وَذَلِكَ الْكُفْرُ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا لِأَنَّ مَنْ جَحَدَ كَوْنَ النِّعَمِ صَادِرَةً مِنَ الْمُنْعِمِ، وَأَضَافَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِلَى الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ فَقَدْ كَفَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ مُسْتَقِلَّةً بِاقْتِضَاءِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ الصَّانِعُ تَعَالَى جَبَلَهَا عَلَى خَوَاصَّ وَصِفَاتٍ تَقْتَضِي هَذِهِ الْحَوَادِثَ، فَلَعَلَّهُ لَا يَبْلُغُ خَطَؤُهُ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ.

المسألة الرَّابِعَةُ: قَالُوا الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّه مَقْدُورٌ لَهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَوْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّه مَقْدُورٌ لَهُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَالْأَقْوَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى بِعْثَةِ رَسُولٍ وَنَذِيرٍ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ خَصَّهُ بِالرِّسَالَةِ وَفَضَّلَهُ بِهَا عَلَى الْكُلِّ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تُوَافِقْهُمْ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ وَلَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ وَلَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا وَلَكِنَّا قَصَرْنَا الْأَمْرَ عَلَيْكَ وَأَجْلَلْنَاكَ وَفَضَّلْنَاكَ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ، فَقَابِلْ هَذَا الْإِجْلَالَ بِالتَّشَدُّدِ فِي الدِّينِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي مَزْجَ اللُّطْفِ بِالْعُنْفِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِالْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، إِلَى مُحَمَّدٍ الْبَتَّةَ، وَقَوْلُهُ:

وَلَوْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى الْأَوَّلِ يَحْصُلُ التَّأْدِيبُ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الثَّانِي يَحْصُلُ الْإِعْزَازُ.

أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فَالْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ طَاعَتِهِمْ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُشْتَغِلًا بِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي الْأَدَاءِ، وَالدُّعَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ الْقِتَالُ، وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَاهُمَا، وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْقِتَالِ وَرَدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِزَمَانٍ وَإِنَّمَا قَالَ: جِهاداً كَبِيراً لِأَنَّهُ لَوْ بَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ نَذِيرٍ مُجَاهَدَةُ قَرْيَتِهِ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّه تِلْكَ الْمُجَاهَدَاتُ وَكَثُرَ جِهَادُهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَظُمَ فَقَالَ لَهُ: وَجاهِدْهُمْ بِسَبَبِ كَوْنِكَ نَذِيرَ كَافَّةِ الْقُرَى جِهاداً كَبِيراً جَامِعًا لِكُلِّ مجاهدة.

[[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٣]]

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)

[النوع الرابع من دلائل التوحيد] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ خَلَّاهُمَا وَأَرْسَلَهُمَا يُقَالُ:

مَرَجْتُ الدَّابَّةَ إِذَا خَلَّيْتَهَا تَرْعَى، وَأَصْلُ الْمَرَجِ الْإِرْسَالُ وَالْخَلْطُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:

٥] سَمَّى الْمَاءَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ الْوَاسِعَيْنِ بَحْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، أَيْ أَرْسَلَهُمَا فِي مَجَارِيهِمَا كَمَا تُرْسَلُ الْخَيْلُ فِي الْمَرْجِ وَهُمَا يَلْتَقِيَانِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْفُرَاتِ الْبَلِيغُ فِي الْعُذُوبَةِ حَتَّى (يَصِيرَ) «١» إِلَى الْحَلَاوَةِ، وَالْأُجَاجُ نَقِيضُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِقُدْرَتِهِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا وَيَمْنَعُهُمَا التَّمَازُجَ، وجعل من


(١) في الكشاف (يضرب) ٣/ ٩٦ ط. دار الفكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>