للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْهُ، وَعَاشِرُهَا: قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَعَلَى قَوْلِهِمْ لَوْ رَدَّهُ اللَّهُ أَبَدًا كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا قُدْرَةُ الْكُفْرِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا، وَالْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى مُوَبِّخًا لَهُمْ بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ لَا أَنَّ الْحُجَّةَ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: قَدْ جَاءَتْنَا الْآيَاتُ وَلَكِنَّكَ خَلَقْتَ فِينَا التَّكْذِيبَ بِهَا وَلَمْ تُقْدِرْنَا عَلَى التَّصْدِيقِ بِهَا.

وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَفْعَالًا لَهُمْ لَمَا صَحَّ الْكَلَامُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مُعَارَضَةٌ، بِمَا أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُضِلُّ وَيَمْنَعُ وَيَصْدُرُ مِنْهُ اللِّينُ/ وَالْقَسْوَةُ وَالِاسْتِدْرَاجُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ مَمْلُوءًا منه لم يكن إلى الإعادة حاجة.

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٠ الى ٦١]

وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٍ آخَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، أَمَّا الْوَعِيدُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ وَفِيهِ بَحْثَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا التَّكْذِيبَ كَيْفَ هُوَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا السَّوَادَ كَيْفَ هُوَ؟

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا التَّكْذِيبِ، فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَدْرُ لَا يَكُونُ كَذِبًا بَلِ الشَّرْطُ فِي كَوْنِهِ كَذِبًا أَنْ يَقْصِدَ الْإِتْيَانَ بِخَبَرٍ يُخَالِفُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَذْكُرُ أَقْوَالَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:

قَالَ الْكَعْبِيُّ: ويرد الخبر بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي [الزمر: ٥٨] يَعْنِي أَنَّهُ مَا هَدَانِي بَلْ أَضَلَّنِي، فَلَمَّا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَائِدًا إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ

رُوِيَ عَنِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الذُّنُوبَ عَلَى الْعِبَادِ، وَهُمْ كَذَبَةٌ عَلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ مُسَوِّدٌ وُجُوهَهُمْ»

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا آخِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةً أَقْوَامٌ مُتَكَبِّرُونَ، وَالتَّكَبُّرُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يَقُولُ أَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِعَادَةِ وَالْإِيجَادِ، وَإِنَّمَا الْقَادِرُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ شَيْئًا وَأَنَا أُرِيدُ بِضِدِّهِ، فَيَحْصُلُ مُرَادِي وَلَا يَحْصُلُ مُرَادُ اللَّهِ، فَالتَّكَبُّرُ بِهَذَا الْقَائِلِ أَلْيَقُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَاسِدٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، قَالَ الْقَاضِي يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجْبِرَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ أَوْ نَزَّهَهُ عَمَّا يَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، فَالْكُلُّ مِنْهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ هذه الآية، لأنهم كلهم كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، فَتَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْمُجْبِرَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ أَوِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَجُوزُ، وَاعْلَمْ أَنَّا لَوْ أَجْرَيْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي/ لَزِمَهُ تَكْفِيرُ الْأُمَّةِ، لِأَنَّكَ لَا تَرَى فِرْقَةً مِنْ فِرَقِ الْأُمَّةِ إِلَّا وَقَدْ حَصَلَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَبِي هَاشِمٍ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُ عَلَى قَانُونِ قَوْلِ الْقَاضِي تَكْفِيرُ أَحَدِهِمَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>