أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فَهُوَ الْكَلَامُ الْجَامِعُ لِكُلِّ وَعِيدٍ، وَمَنْ تَصَوَّرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِسِرِّهِ وَإِعْلَانِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ أَنَّهُ مِنْ وَرَاءِ مُجَازَاتِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ لَا يَمْضِي عَلَيْهِ طَرْفَةُ عَيْنٍ إِلَّا وَهُوَ حَذِرٌ خَائِفٌ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَنَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ رَقِيبٌ مِنْ جِهَةِ سُلْطَانٍ يَعُدُّ عَلَيْهِ الْأَنْفَاسَ لَكَانَ دَائِمَ الْحَذَرِ وَالْوَجَلِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّقِيبَ لَا يَعْرِفُ إِلَّا الظَّاهِرَ، فَكَيْفَ بِالرَّبِّ الرَّقِيبِ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى إِذَا هَدَّدَ وأوعد بهذا الجنس من القول.
[[سورة البقرة (٢) : آية ١٤١]]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَاجَّ الْيَهُودَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَقَّبَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: لِيَكُونَ وَعْظًا لَهُمْ وَزَجْرًا حتى لا يتكلوا عَلَى فَضْلِ الْآبَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يُؤْخَذُ بِعَمَلِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ مَتَى لَا يَسْتَنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فَرْضُكُمْ عَيْنَ فَرْضِهِمْ لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ لَمْ يَسْتَنْكِرْ أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَصَالِحُ فَيَنْقُلُكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِلَّةٍ إِلَى مِلَّةٍ أُخْرَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُسْنَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَّنَ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَتِمُّ بذلك بل كل إنسان مسؤول عَنْ عَمَلِهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الْحَقِّ بِأَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِطَرِيقَةِ مَنْ تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُمْ أَصَابُوا أَمْ أَخْطَئُوا لَا يَنْفَعُ هَؤُلَاءِ وَلَا يَضُرُّهُمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ طَرِيقَةَ الدِّينِ التَّقْلِيدُ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ كُرِّرَتِ الْآيَةُ؟ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَنَى بِالْآيَةِ الْأُولَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَالثَّانِيَةِ أَسْلَافَ الْيَهُودِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَسْلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ مُصَرَّحٌ وَمَوْضِعُ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا فِي إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ إِنَّهُمْ كَانُوا هُودًا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ طَرِيقَةِ أَسْلَافِنَا مِنَ الْيَهُودِ فَصَارَ سَلَفُهُمْ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِينَ فَجَازَ أَنْ يَقُولَ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ وَيُعَيِّنُهُمْ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَالتَّعَسُّفِ بَلِ الْمَذْكُورُ السَّابِقُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ وَبَنُوهُ فَقَوْلُهُ: تِلْكَ أُمَّةٌ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَيْهِمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى اخْتَلَفَتِ الْأَوْقَاتُ وَالْأَحْوَالُ وَالْمَوَاطِنُ لَمْ يَكُنِ التَّكْرَارُ عَبَثًا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ فَوَصْفُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ لَا يُسَوِّغُ التَّقْلِيدَ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَعَلَيْكُمْ بِتَرْكِ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ فَلَهَا مَا كَسَبَتْ وَانْظُرُوا فِيمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَكُمْ وَأَعْوَدُ عَلَيْكُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ إِلَّا عَنْ عَمَلِكُمْ.
[[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٢]]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى طَعْنًا فِي الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: النَّسْخُ يَقْتَضِي إِمَّا الْجَهْلَ أَوِ التَّجْهِيلَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْقَيْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِلَا دَوَامٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الدَّوَامِ، فَإِنْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْقَيْدِ لَمْ يَقْتَضِ الْفِعْلَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَكُونُ وُرُودُ الْأَمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِهِ نَاسِخًا وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ اللَّادَوَامَ فَهَهُنَا ظَاهِرٌ أَنَّ الْوَارِدَ بَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الدَّوَامِ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ يُعْتَقَدُ فِيهِ أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَهُنَا كَانَ جَاهِلًا ثُمَّ بَدَا لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى دَائِمًا مَعَ أَنَّهُ/ ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا كَانَ ذَلِكَ تَجْهِيلًا فَثَبَتَ أَنَّ النَّسْخَ يَقْتَضِي إِمَّا الْجَهْلَ أَوِ التَّجْهِيلَ وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ النَّسْخُ مِنْهُ مُحَالًا، فَالْآتِي بِالنَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يكون مبطلًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute