للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْهَرَبِ مِنَ السَّبُعِ إِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ النُّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ تِلْكَ النُّفْرَةِ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُلْجَأً وَلَزِمَهُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النفار، وهاهنا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْوُجُوبِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ الْغُفْرَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عند حصول الإثم.

والجواب: من وجوه أحدها: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُرْمَةِ قَائِمٌ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، إِلَّا أَنَّهُ زَالَتِ الْحُرْمَةُ لِقِيَامِ الْمُعَارِضِ، فَلَمَّا كَانَ تَنَاوُلُهُ تَنَاوُلًا لِمَا حَصَلَ فِيهِ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ رَحِيمٌ، يَعْنِي لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ عَلَيْكُمْ أَبَحْتُ لَكُمْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ الْمُضْطَرَّ يَزِيدُ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَاجَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ غَفُورٌ بِأَنْ يَغْفِرَ ذَنْبَهُ فِي تَنَاوُلِ الزِّيَادَةِ، رَحِيمٌ حَيْثُ أَبَاحَ فِي تَنَاوُلِ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَقَّبَهَا بِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا لِأَنَّهُ غَفُورٌ لِلْعُصَاةِ إِذَا تَابُوا، رَحِيمٌ بِالْمُطِيعِينَ الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى نَهْجِ حُكْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَسَائِلُ الْفِقْهِيَّةُ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْهَا وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى فُصُولٍ:

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَيْتَةِ

وَالْكَلَامُ فِيهِ مُرَتَّبٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَقَاصِدَ:

أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إِلَى الْأَعْيَانِ، هَلْ يَقْتَضِي الْإِجْمَالَ؟ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْإِجْمَالَ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِمَا إِلَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِنَا فِيهَا، وَلَيْسَتْ جَمِيعُ أَفْعَالِنَا فِيهَا مُحَرَّمَةً لِأَنَّ تَبْعِيدَهَا عَنِ النَّفْسِ وَعَمَّا يُجَاوِزُ الْمَكَانَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ فِيهَا، وَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ هَذَا التَّحْرِيمِ إِلَى فِعْلٍ خَاصٍّ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَوَجَبَ صَيْرُورَةُ الْآيَةِ مُجْمَلَةً، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ بَلْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ تُفِيدُ فِي الْعُرْفِ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ كَمَا أَنَّ الذَّوَاتِ لَا تُمَلَّكُ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ التَّصَرُّفَاتُ فِيهَا، فَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ يَمْلِكُ جَارِيَةً فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا فكذا هنا، وقد استقصينا الكلام فيه في كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا ثَبَتَ الْأَصْلُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَجَبَ أَنْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى حُرْمَةِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا التَّحْرِيمِ بِالْأَكْلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ وَرَدَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [البقرة: ٥٧] وَثَالِثُهَا: مَا

رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَبَرِ شَاةِ مَيْمُونَةَ، إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَجِبُ قَصْرُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، بَلْ يَجِبُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ ظاهر القرآن