كَمَا أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَاجَ إِلَى الْغَزْوِ فَجَلَسَ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الْخَيْلِ وَأَمَرَ بِإِجْرَائِهَا وَذَكَرَ أَنِّي لَا أُحِبُّهَا لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَنَصِيبِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا أُحِبُّهَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَطَلَبِ تَقْوِيَةِ دِينِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِإِعْدَائِهَا وَتَسْيِيرِهَا حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ أَيْ غَابَتْ عَنْ بَصَرِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الرَّائِضِينَ بِأَنْ يَرُدُّوا تِلْكَ الْخَيْلَ إِلَيْهِ فَلَمَّا عَادَتْ إِلَيْهِ طَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْحِ أُمُورٌ الْأَوَّلُ: تَشْرِيفًا لَهَا وَإِبَانَةً لِعِزَّتِهَا لِكَوْنِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْوَانِ فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ فِي ضَبْطِ السِّيَاسَةِ وَالْمُلْكِ يَتَّضِعُ إِلَى حَيْثُ يُبَاشِرُ أَكْثَرَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ بِأَحْوَالِ الْخَيْلِ وَأَمْرَاضِهَا وَعُيُوبِهَا، فَكَانَ يَمْتَحِنُهَا وَيَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَرَضِ، فَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ انْطِبَاقًا مُطَابِقًا مُوَافِقًا، وَلَا يَلْزَمُنَا نِسْبَةُ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَالَمَحْذُورَاتِ، وَأَقُولُ أَنَا شَدِيدُ التَّعَجُّبِ مِنَ النَّاسِ كَيْفَ قَبِلُوا هَذِهِ الْوُجُوهَ السَّخِيفَةَ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ يَرُدُّهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِهَا شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ، فَإِنْ قِيلَ فَالْجُمْهُورُ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، فَمَا قَوْلُكَ فيه؟ فنقول لنا هاهنا مَقَامَانِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَدَّعِيَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ الَّتِي يُذْكُرُونَهَا، وَقَدْ ظَهَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَظُهُورُهُ لَا يَرْتَابُ الْعَاقِلُ فِيهِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ هَبْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَا أَنَّهُ كَلَامٌ ذَكَرَهُ النَّاسُ، فَمَا قَوْلُكَ/ فِيهِ وَجَوَابُنَا أَنَّ الدَّلَالَةَ الْكَثِيرَةَ قَامَتْ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ وَرِوَايَةُ الْآحَادِ لَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِلدَّلَائِلِ الْقَوِيَّةِ، فَكَيْفَ الْحِكَايَاتُ عَنْ أَقْوَامٍ لَا يُبَالَى بِهِمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى أَقْوَالِهِمْ، والله أعلم.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨)
هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحُ وَاقِعَةٍ ثَانِيَةٍ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَلِأَهْلِ الْحَشْوِ وَالرِّوَايَةِ فِيهِ قَوْلٌ، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ قَوْلٌ آخَرُ، أَمَّا قَوْلُ أَهْلِ الحشو فذكروا فيه حكايات:
الْأُولَى: قَالُوا إِنْ سُلَيْمَانَ بَلَغَهُ خَبَرُ مَدِينَةٍ فِي الْبَحْرِ فَخَرَجَ إِلَيْهَا بِجُنُودِهِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَأَخَذَهَا وَقَتَلَ مَلِكَهَا، وَأَخَذَ بِنْتًا لَهُ اسْمُهَا جَرَادَةُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا فَاصْطَفَاهَا لِنَفَسِهِ وَأَسْلَمَتْ فَأَحَبَّهَا وَكَانَتْ تَبْكِي أَبَدًا عَلَى أَبِيهَا فَأَمَرَ سُلَيْمَانَ الشَّيْطَانَ فَمَثَّلَ لَهَا صُورَةَ أَبِيهَا فَكَسَتْهَا مِثْلَ كُسْوَتِهِ وَكَانَتْ تَذْهَبُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا مَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute