فَقَدُوا الطَّعَامَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ يَذُوقُونَ الْجُوعَ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْجُوعَ كَانَ شَدِيدًا كَامِلًا فَصَارَ كَأَنَّهُ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ، فَأَشْبَهَ اللِّبَاسَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْجُوعِ حَالَةٌ تُشْبِهُ الْمَذُوقَ، وَحَالَةٌ تُشْبِهُ الْمَلْبُوسَ، فَاعْتَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ، فَقَالَ: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهَا لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِلَفْظِ الْإِذَاقَةِ وَأَصْلُ الذَّوْقِ بِالْفَمِ، ثُمَّ قَدْ يُسْتَعَارُ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ التَّعَرُّفِ وَهُوَ الِاخْتِبَارُ، تَقُولُ: نَاظِرْ فُلَانًا وَذُقْ مَا عِنْدَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعِمْتُهَا ... وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذَابُهَا
وَلِبَاسُ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ هُوَ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضُّمُورِ وَشُحُوبِ اللَّوْنِ وَنَهْكَةِ الْبَدَنِ وَتَغَيُّرِ الْحَالِ وَكُسُوفِ الْبَالِ فَكَمَا تَقُولُ: تَعَرَّفْتُ سُوءَ أَثَرِ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ عَلَى فُلَانٍ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: ذُقْتُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ عَلَى فُلَانٍ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ اللُّبْسِ عَلَى الْمُمَاسَّةِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ مَسَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ.
ثم قال تَعَالَى: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِفِعْلِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَقُلْ بِمَا صَنَعَتْ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ٤] وَلَمْ يَقُلْ قَائِلَةٌ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقَرْيَةَ بِأَنَّهَا مُطْمَئِنَّةٌ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ أُجْرِيَتْ بِحَسْبِ اللَّفْظِ عَلَى الْقَرْيَةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَقِيقَةِ أَهْلُهَا، فَلَا جَرَمَ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَثَلَ ذَكَرَ الْمُمَثَّلَ فَقَالَ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ: رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي الْجُوعَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَقُولُ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ... إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْجُوعَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ فَاتْرُكُوا الْكُفْرَ حَتَّى تَأْكُلُوا، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَكُلُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَهِدُوا وَقَالُوا عَادَيْتَ الرِّجَالَ فَمَا بَالُ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ. وَكَانَتِ الْمِيرَةُ قَدْ قُطِعَتْ عَنْهُمْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ فِي حَمْلِ الطَّعَامِ إليهم فحمل إليهم العظام فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ [النحل: ١١٥] الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَمَّا آمَنْتُمْ وَتَرَكْتُمُ الْكُفْرَ فَكُلُوا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ وَاتْرُكُوا الْخَبَائِثَ وهي الميتة والدم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute