يَخْتَلِفُوا فِي مُدْخَلَ صِدْقٍ بِالضَّمِّ، فَبِالْفَتْحِ الْمُرَادُ مَوْضِعُ الدُّخُولِ، وَبِالضَّمِّ الْمُرَادُ الْمَصْدَرُ وَهُوَ الْإِدْخَالُ، أَيْ: وَيُدْخِلْكُمْ إِدْخَالًا كَرِيمًا، وَصَفَ الْإِدْخَالَ بِالْكَرَمِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِدْخَالَ يَكُونُ مَقْرُونًا بِالْكَرَمِ عَلَى خِلَافِ مَنْ قَالَ اللَّه فِيهِمْ: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ [الْفُرْقَانِ: ٣٤] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مُجَرَّدَ الِاجْتِنَابِ عَنِ الْكَبَائِرِ لَا يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَتَيْتُمْ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتَنَبْتُمْ عَنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ كَفَّرْنَا عَنْكُمْ بَقِيَّةَ السَّيِّئَاتِ وَأَدْخَلْنَاكُمُ الْجَنَّةَ، فَهَذَا أَحَدُ مَا يُوجِبُ الدُّخُولَ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَدَمَ السَّبَبِ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْمُسَبِّبِ، بَلْ هاهنا سَبَبٌ آخَرُ هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ الْقَوِيُّ، وَهُوَ فَضْلُ اللَّه وَكَرَمُهُ وَرَحْمَتُهُ، كَمَا قَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُسَ: ٥٨] واللَّه أعلم.
[[سورة النساء (٤) : آية ٣٢]]
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
اعْلَمْ أَنَّ فِي النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، أَمَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا سَهَّلَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهُوَ أَنْ يَرْضَى كُلُّ أَحَدٍ بِمَا قَسَمَ اللَّه لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ وَقَعَ فِي الْحَسَدِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي الْحَسَدِ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَفِي قَتْلِ النُّفُوسِ، فَأَمَّا إِذَا رَضِيَ بما قدر اللَّه أَمْكَنَهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الظُّلْمِ فِي النُّفُوسِ وَفِي الْأَمْوَالِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ: هُوَ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلَ النَّفْسِ، مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فَأَمَرَ أَوَّلًا بِتَرْكِهِمَا لِيَصِيرَ الظَّاهِرُ طَاهِرًا عَنِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَهُوَ الشَّرِيعَةُ. ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَهُ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِنُفُوسِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ بِالْقَلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ، لِيَصِيرَ الْبَاطِنُ طَاهِرًا عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّرِيقَةُ. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ] ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّمَنِّي عِنْدَنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ مِنَ الْكَافِرِ أَنْ يُؤْمِنَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لَكَانَ مُتَمَنِّيًا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْتَهُ وُجِدَ كَذَا، أَوْ لَيْتَهُ لَمْ يُوجَدْ كَذَا، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى لَا يَكُونُ تَمَنِّيًا، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبْحَثَ عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَلَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ إِمَّا نَفْسَانِيَّةٌ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ، أَوْ خَارِجِيَّةٌ.
أَمَّا السَّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَهُوَ: الذَّكَاءُ التَّامُّ وَالْحَدْسُ الْكَامِلُ، وَالْمَعَارِفُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَعَارِفِ الْغَيْرِ بِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَهِيَ: الْعِفَّةُ الَّتِي هِيَ وَسَطٌ بَيْنِ الْخُمُودِ وَالْفُجُورِ، وَالشَّجَاعَةُ الَّتِي هِيَ وَسَطٌ بَيْنِ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَاسْتِعْمَالُ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْبَلَهِ وَالْجَرْبَزَةِ، وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ هُوَ الْعَدَالَةُ.
وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ: فَالصِّحَّةُ وَالْجَمَالُ، وَالْعُمْرُ الطَّوِيلُ فِي ذَلِكَ مَعَ اللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute