عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْأَشْجَارَ الطِّوَالَ أَثْمَارُهَا بَارِزُهَا مُتَمَيِّزٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصْلٌ يَخْرُجُ مِنْهُ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَغَيْرِهِمَا وَالطَّلْعُ كَالسُّنْبُلَةِ الواحدة يكون على أصل واحد.
[[سورة ق (٥٠) : آية ١١]]
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رِزْقاً لِلْعِبادِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ رِزْقٌ/ فكأنه تعالى قال: أنبتناها إنباتا لِلْعِبَادِ، وَالثَّانِي نَصْبٌ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ كأنه قال: أنبتناها لرزق العباد، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ والأرض تَبْصِرَةً وَذِكْرى [ق: ٨] وَفِي الثِّمَارِ قَالَ: رِزْقاً وَالثِّمَارُ أَيْضًا فِيهَا تَبْصِرَةٌ، وَفِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَيْضًا مَنْفَعَةٌ غَيْرُ التَّبْصِرَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ الْأَمْرَيْنِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ نَقُولَ الِاسْتِدْلَالُ وَقَعَ لِوُجُودِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِعَادَةُ وَالثَّانِي الْبَقَاءُ بَعْدَ الْإِعَادَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بحشر وجمع يكون بعد الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَالْعِقَابُ الدَّائِمُ، وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَأَمَّا الأول فالله القادر على خلق السموات وَالْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ وَالْقَادِرُ عَلَى إِخْرَاجِ الْأَرْزَاقِ مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَ الْعَبْدَ فِي الْجَنَّةِ وَيَبْقَى، فَكَأَنَّ الْأَوَّلَ تَبْصِرَةٌ وَتَذْكِرَةٌ بِالْخَلْقِ، وَالثَّانِي تَذْكِرَةٌ بِالْبَقَاءِ بِالرِّزْقِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ تَبْصِرَةً وَذِكْرى حَيْثُ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الْآيَتَيْنِ، ثُمَّ بَدَأَ بِذِكْرِ الْمَاءِ وَإِنْزَالِهِ وَإِنْبَاتِهِ النَّبَاتَ ثَانِيهَا: أَنَّ مَنْفَعَةَ الثِّمَارِ الظَّاهِرَةِ هِيَ الرِّزْقُ فَذَكَرَهَا وَمَنْفَعَةَ السَّمَاءِ الظَّاهِرَةِ لَيْسَتْ أَمْرًا عَائِدًا إِلَى انْتِفَاعِ الْعِبَادِ لِبُعْدِهَا عَنْ ذِهْنِهِمْ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ تَوَهَّمُوا عَدَمَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ لَظَنُّوا أَنْ يَهْلَكُوا، وَلَوْ تَوَهَّمُوا عَدَمَ السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ لَقَالُوا لَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ أَوْلَى، لِأَنَّ السَّمَاءَ سَبَبُ الْأَرْزَاقِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَفِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَالثِّمَارُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ [مَا] كَانَ الْعَيْشُ، كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمٍ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَعَلَى قَوْمٍ الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ فَذَكَرَ الْأَظْهَرَ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ رِزْقاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُنْعِمًا لِكَوْنِ تَكْذِيبِهِمْ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِشَارَةً [لِلتَّكْذِيبِ] بِالْمُنْعِمِ وَهُوَ أَقْبَحُ مَا يَكُونُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قال: تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: ٨] فَقَيَّدَ الْعَبْدَ بِكَوْنِهِ مُنِيبًا وَجَعَلَ خَلْقَهَا تَبْصِرَةً لِعِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَقَالَ: رِزْقاً لِلْعِبادِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الرِّزْقَ حَصَلَ لِكُلِّ أَحَدٍ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنِيبَ يَأْكُلُ ذَاكِرًا شَاكِرًا لِلْإِنْعَامِ، وَغَيْرَهُ يَأْكُلُ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ فَلَمْ يُخَصِّصِ الرِّزْقَ بِقَيْدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة أيضا وهي إنبات الجنات والحب والنخل كَمَا ذَكَرَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ أُمُورًا ثَلَاثَةً، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأُمُورَ الثلاثة في الآيتين المتقدمين مُتَنَاسِبَةٌ، فَهَلْ هِيَ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ نَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الَّتِي يَبْقَى أَصْلُهَا سِنِينَ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَمَلِ عَامِلٍ وَالَّتِي لَا يَبْقَى أَصْلُهَا وَتَحْتَاجُ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى عَمَلِ عَامِلٍ، وَالَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْأَمْرَانِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ خَارِجًا عَنْهُ أَصْلًا كَمَا أَنَّ أُمُورَ الْأَرْضِ مُنْحَصِرَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ: ابْتِدَاءٌ وَهُوَ الْمَدُّ، وَوَسَطٌ وَهُوَ النَّبَاتُ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَةِ، وَثَالِثُهَا هُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ وَهُوَ الْإِنْبَاتُ وَالتَّزْيِينُ بِالزَّخَارِفِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً عطفا على فَأَنْبَتْنا بِهِ [ق: ٩] وفهي بحثان:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute