للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السُّؤَالِ أَوْهَمَ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ السُّؤَالِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ تَمْيِيزًا لِهَذَا الْقِسْمِ عَنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ.

فَإِنْ قيل قوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها هَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ في قوله لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ فِي أَشْياءَ بِأَعْيَانِهَا أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْهَا مَمْنُوعًا وَجَائِزًا مَعًا.

قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْهَا مَمْنُوعًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا وَمَأْمُورًا بِهِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مسؤولا عَنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَلِهَذَا الْوَجْهِ حَسُنَ اتِّحَادُ الضَّمِيرِ وَإِنْ كَانَا فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ دَلَّ عَلَى سُؤَالَاتِهِمْ عَنْ تِلْكَ الأشياء، فقوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ يُبَيَّنْ لَكُمْ أَنَّ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ لَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ السُّؤَالُ أَوَّلًا، وَأَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ السُّؤَالُ عَنْ كَذَا وَكَذَا أَمْ لَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْها وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: عَفَا اللَّه عَمَّا سَلَفَ مِنْ مَسَائِلِكُمْ وَإِغْضَابِكُمْ لِلرَّسُولِ بِسَبَبِهَا، فَلَا تَعُودُوا إِلَى مِثْلِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا إِنْ أُبْدِيَتْ لَهُمْ سَاءَتْهُمْ، فَقَالَ عَفَا اللَّهُ عَنْها يَعْنِي عَمَّا ظَهَرَ عِنْدَ تِلْكَ السؤالات مما يسؤكم وَيَثْقُلُ وَيَشُقُّ فِي التَّكْلِيفِ عَلَيْكُمْ. الثَّالِثُ:

فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ عَفَا اللَّه عَنْهَا فِي الْآيَةِ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا اسْتَقَامَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ النَّظْمِ لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْها أَيْ أَمْسَكَ عَنْهَا وَكَفَّ عَنْ ذِكْرِهَا وَلَمْ يُكَلِّفْ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَهَذَا

كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ»

أَيْ خَفَّفْتُ عَنْكُمْ بِإِسْقَاطِهَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَفَا اللَّه عَنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ في الوجه الأول. ثم قال تعالى:

[[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٢]]

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي قَوْمَ صَالِحٍ سَأَلُوا النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا وَقَوْمُ مُوسَى قَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:

١٥٣] فَصَارَ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى:

فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وقالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٦- ٢٤٧] فَسَأَلُوهَا ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا، وَقَوْمُ عِيسَى سَأَلُوا الْمَائِدَةَ ثُمَّ كَفَرُوا بِهَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أُولَئِكَ سَأَلُوا فَلَمَّا أُعْطُوا سُؤْلَهُمْ سَاءَهُمْ ذَلِكَ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ فَلَعَلَّكُمْ إِنْ أُعْطِيتُمْ سُؤْلَكُمْ سَاءَكُمْ ذَلِكَ فَإِنْ قيل: إنه تعالى قال: أولا: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ [المائدة: ١٠١] ثُمَّ قَالَ هَاهُنَا: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: قَدْ سَأَلَ عَنْهَا قَوْمٌ فَمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ.

قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَصِفَةٍ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>