إِلَى كُلِّ خَيْرٍ. وَثَانِيهَا: الْمُهْتَدُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، الْفَائِزُونَ بِالثَّوَابِ. وَثَالِثُهَا: الْمُهْتَدُونَ لِسَائِرِ مَا لَزِمَهُمْ، وَالْأَقْرَبُ فِيهِ مَا يَصِيرُ دَاخِلًا فِي الْوَعْدِ حَتَّى يَكُونَ عَطْفُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالرَّحْمَةِ صَحِيحًا، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمُ الْفَائِزُونَ بِالثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ، وَالطَّرِيقِ إِلَيْهَا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الِاهْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمُ الْمُتَأَدِّبُونَ بِآدَابِهِ الْمُتَمَسِّكُونَ بِمَا أَلْزَمَ وَأَمَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى حُكْمَيْنِ:
فَرْضٍ وَنَفْلٍ، أَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، لَا يَصْرِفُ عَنْهَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَمَّا النَّفْلُ فَإِظْهَارًا لِقَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهِ فَوَائِدَ جَزِيلَةً مِنْهَا أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي/ بِهِ إِذَا سَمِعَهُ، وَمِنْهَا غَيْظُ الْكُفَّارِ وَعِلْمُهُمْ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَعَلَى طَاعَتِهِ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ قَالَ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا يُحَبَّ الْبَقَاءُ فِيهَا، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْزُنَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ ثَوَابًا.
وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِبَيَانِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَنَقُولُ: الْعَبْدُ إِنَّمَا يَصْبِرُ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقَيْنِ: إِمَّا بِطَرِيقِ التَّصَرُّفِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْجَذْبِ، أَمَّا طَرِيقُ التَّصَرُّفِ فَمِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَتَى مَالَ قَلْبُهُ إِلَى شَيْءٍ وَالْتَفَتَ خَاطِرُهُ إِلَى شَيْءٍ جَعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مَنْشَأً لِلْآفَاتِ فَحِينَئِذٍ يَنْصَرِفُ وَجْهُ الْقَلْبِ عَنْ عَالَمِ الْحُدُوثِ إِلَى جَانِبِ الْقُدُسِ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالْجَنَّةِ جَعَلَهَا مِحْنَةً عَلَيْهِ حَتَّى زَالَتِ الْجَنَّةُ، فَبَقِيَ آدَمُ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمَّا اسْتَأْنَسَ يَعْقُوبُ بِيُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوْقَعَ الْفِرَاقَ بَيْنَهُمَا حَتَّى بَقِيَ يَعْقُوبُ مَعَ ذِكْرِ الْحَقِّ، وَلَمَّا طَمِعَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي النُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ صَارُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْهِ حَتَّى
قَالَ: «مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ» .
وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَلَاءً وَلَكِنْ يَرْفَعُهُ مِنَ الْبَيْنِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَا الْبَلَاءُ وَلَا الرَّحْمَةُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى تَوَقَّعَ مِنْ جَانِبٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ خَيْرًا مِنْ مُتَوَقَّعِهِ فَيَسْتَحِي الْعَبْدُ فَيَرْجِعُ إِلَى بَابِ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَأَمَّا طَرِيقُ الْجَذْبِ فَهُوَ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الْحَقِّ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ» .
وَمَنْ جَذَبَهُ الْحَقُّ إِلَى نَفْسِهِ صَارَ مَغْلُوبًا لِأَنَّ الْحَقَّ غَالِبٌ لَا مَغْلُوبٌ، وَصِفَةُ الرَّبِّ الرُّبُوبِيَّةُ، وَصِفَةُ الْعَبْدِ الْعُبُودِيَّةُ، وَالرُّبُوبِيَّةُ غَالِبَةٌ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ لَا بِالضِّدِّ، وَصِفَةُ الْحَقِّ حَقِيقَةٌ، وَصِفَةُ الْعَبْدِ مَجَازٌ، وَالْحَقِيقَةُ غَالِبَةٌ عَلَى الْمَجَازِ لَا بِالضِّدِّ، وَالْغَالِبُ يَقْلِبُ الْمَغْلُوبَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ تَلِيقُ بِهِ، وَالْعَبْدُ إِذَا دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ الْمَهِيبِ نَسِيَ نَفْسَهُ وَصَارَ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَفِكْرِهِ وَحِسِّهِ مُقْبِلًا عَلَيْهِ وَمُشْتَغِلًا بِهِ وَغَافِلًا عَنْ غَيْرِهِ، فكيف بمن لحظ نصره حَضْرَةَ السُّلْطَانِ الَّذِي كَانَ مَنْ عَدَاهُ حَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ هُنَالِكَ كَالْفَانِي عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ هُنَالِكَ رَاضِيًا بِأَقْضِيَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة.
[[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّلَ الْقِبْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِيُتِمَّ إِنْعَامَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ بِإِحْيَاءِ شَرَائِعِ إِبْرَاهِيمَ/ وَدِينِهِ عَلَى ما قال: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [البقرة: