للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ تَبْقَى الْمَوْصُوفِيَّةُ مَوْصُوفِيَّةً، فَظَهَرَ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَوْ تَمَّتْ وَاسْتَقَرَّتْ يَلْزَمُ نَفْيُ التَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرِ أَصْلًا، بَلْ كَمَا أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ إِنَّمَا صَارَتْ مَوْجُودَةً بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَكَذَا أَيْضًا الْمَاهِيَّاتُ إِنَّمَا صَارَتْ مَاهِيَّاتٍ بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَإِذَا لَاحَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ ظَهَرَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ صِدْقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بل ملك السموات وَالْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى كَمَالِ ملكه أصلا، لأن ملك السموات وَالْأَرْضِ مُلْكٌ مُتَنَاهٍ، وَكَمَالُ مُلْكِهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى غَيْرِ المتناهي، لكنه سبحانه وتعالى ذكر ملك السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ عُقُولُهُمْ ضَعِيفَةٌ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمُ التَّرَقِّيَ مِنَ الْمَحْسُوسِ إلى المعقول.

ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ دَلَائِلِ الآفاق ملك السموات وَالْأَرْضِ ذَكَرَ بَعْدَهُ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ فَقَالَ: يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُحْيِي الْأَمْوَاتَ لِلْبَعْثِ، وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُحْيِي النُّطَفَ فَيَجْعَلُهَا أشخاصا عقلاء نَاطِقِينَ وَيُمِيتُ/ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَبِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَادِ هَاتَيْنِ الْمَاهِيَّتَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَمْنَعُهُ عَنْهُمَا مَانِعٌ وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُمَا رَادٌّ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُفَسِّرُونَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْضِعُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَفْعٌ عَلَى مَعْنَى هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نصبا على معنى: له ملك السموات وَالْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهِ مُحْيِيًا وَمُمِيتًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَوَّلًا: وَدَلَائِلَ الْأَنْفُسِ ثَانِيًا: ذَكَرَ لَفْظًا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَقَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفَوَائِدُ هَذِهِ الآية مذكورة في أول سورة الملك.

[[سورة الحديد (٥٧) : آية ٣]]

هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:

رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «إِنَّهُ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ»

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامٌ مَهِيبٌ غَامِضٌ عَمِيقٌ وَالْبَحْثُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقَدُّمَ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يُعْقَلُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: التَّقَدُّمُ بِالتَّأْثِيرِ فَإِنَّا نَعْقِلُ أَنَّ لِحَرَكَةِ الْأُصْبُعِ تَقَدُّمًا عَلَى حَرَكَةِ الْخَاتَمِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّقَدُّمِ كَوْنُ الْمُتَقَدِّمِ مُؤَثِّرًا فِي الْمُتَأَخِّرِ وَثَانِيهَا: التَّقَدُّمُ بِالْحَاجَةِ لَا بِالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّا نَعْقِلُ احْتِيَاجَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ وَثَالِثُهَا: التَّقَدُّمُ بِالشَّرَفِ كَتَقَدُّمِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ وَرَابِعُهَا: التَّقَدُّمُ بِالرُّتْبَةِ، وَهُوَ إِمَّا مِنْ مَبْدَأٍ مَحْسُوسٍ كَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، أَوْ مِنْ مَبْدَأٍ مَعْقُولٍ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا جَعَلْنَا الْمَبْدَأَ هُوَ الْجِنْسَ الْعَالِيَ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ النَّوْعُ أَشَدَّ تَسَفُّلًا كَانَ أَشَدَّ تَأَخُّرًا، وَلَوْ قَلَبْنَاهُ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَخَامِسُهَا: التَّقَدُّمُ بِالزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ، مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ، فَهَذَا مَا حَصَّلَهُ أَرْبَابُ الْعُقُولِ مِنْ أَقْسَامِ الْقَبْلِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ وَعِنْدِي أَنَّ هاهنا قِسْمًا سَادِسًا، وَهُوَ مِثْلُ تَقَدُّمِ بَعْضِ أَجْزَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>