للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا نِعَمَ الدِّينِ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ لِيَعِظَكُمْ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ فِي أَوَامِرِهِ كُلِّهَا، وَلَا تُخَالِفُوهُ فِي نَوَاهِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٢]]

وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ السَّادِسُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ حُكْمُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ:

رُوِيَ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ زَوَّجَ أُخْتَهُ جَمِيلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَاصِمٍ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ نَدِمَ فَجَاءَ يَخْطِبُهَا لِنَفْسِهِ وَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا مَعْقِلٌ: إِنَّهُ طَلَّقَكِ ثُمَّ تُرِيدِينَ مُرَاجَعَتَهُ وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ حَرَامٌ إِنْ رَاجَعْتِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآية، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ مَعْقِلٌ: رَغِمَ أَنْفِي لِأَمْرِ رَبِّي، اللَّهُمَّ رَضِيتُ وَسَلَّمْتُ لِأَمْرِكَ، وَأَنْكَحَ أُخْتَهُ زَوْجَهَا

وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ بِنْتُ عَمٍّ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَأَرَادَ رَجَعَتْهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فَأَبَى جَابِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَضْلُ الْمَنْعُ، يُقَالُ: عَضَلَ فُلَانٌ ابْنَتَهُ، إِذَا مَنَعَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ، فَهُوَ يَعْضُلُهَا وَيَعْضِلُهَا، بِضَمِّ الضَّادِ وَبِكَسْرِهَا وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش:

وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... كَرَائِمَ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ

وَأَصْلُ الْعَضْلِ فِي اللُّغَةِ الضِّيقُ، يُقَالُ: عَضَّلَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا نَشِبَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، وَكَذَلِكَ عَضَّلَتِ/ الشَّاةُ، وَعَضَّلَتِ الْأَرْضُ بِالْجَيْشِ إِذَا ضَاقَتْ بِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:

تَرَى الْأَرْضَ مِنَّا بِالْفَضَاءِ مَرِيضَةً ... مُعَضِّلَةً مِنَّا بِجَيْشِ عَرَمْرَمِ

وَأَعْضَلَ الْمَرِيضُ الْأَطِبَّاءَ أَيْ أَعْيَاهُمْ، وَسُمِّيَتِ الْعَضَلَةُ عَضَلَةً لِأَنَّ الْقُوَى الْمُحَرِّكَةَ مَنْشَؤُهَا مِنْهَا، وَيُقَالُ:

دَاءٌ عُضَالٌ، لِلْأَمْرِ إِذَا اشْتَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسٍ:

وَلَيْسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي ... يَذُمُّكَ إِنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلَا

وَلَكِنَّهُ النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا ... وَصَاحِبُكَ الْأَدْنَى إِذَا الْأَمْرُ أَعْضَلَا

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، فَالشَّرْطُ قَوْلُهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ وَالْجَزَاءُ قَوْلُهُ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ خِطَابًا مَعَهُمْ أَيْضًا، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ