للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ»

وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا لِمَكَانِ مُلْكِهِ، وَآخِرُ الصَّحَابَةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِمَكَانِ غِنَاهُ، وَفِي الْخَبَرِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلُّهَا مِصْرَاعَانِ إِلَّا بَابَ الصَّبْرِ فَإِنَّهُ مِصْرَاعٌ وَاحِدٌ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُهُ أَهْلُ الْبَلَاءِ وَأَمَامُهُمْ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمِحَنَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَاتٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمِحَنَ إِذَا قَارَنَهَا الصَّبْرُ أَفَادَتْ دَرَجَةً عَالِيَةً فِي الدِّينِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمِحَنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافَ قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ الْأَمْرَاضَ وَغَيْرَهَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَخِلَافَ قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَنْسُبُونَهَا إِلَى سَعَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَنُحُوسَتِهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغِذَاءَ لَا يُفِيدُ الشِّبَعَ، وَشُرْبُ الْمَاءِ لَا يُفِيدُ الرِّيَّ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ صَرِيحٌ فِي إِضَافَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ أَسْبَابَهَا صَحَّ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَجَازٌ وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَجَازِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ الحقيقة.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]

الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)

اعْلَمْ أَنَّهُ تعالى لما قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٥] بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَيْفَ يَكُونُ صَابِرًا، وَأَنَّ تِلْكَ الْبِشَارَةَ كَيْفَ هِيَ؟ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدْ تَكُونُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، أَمَّا الْخَوْفُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللَّهِ فَمِثْلُ الخوف من الغرق والحريق وَالصَّاعِقَةِ وَغَيْرِهَا، وَالَّذِي مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، فَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْجُوعُ فَلِأَجْلِ الْفَقْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْفَقْرُ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ بِأَنْ يُغْلَبُوا عَلَيْهِ فَيُتْلِفُوهُ، وَنَقْصُ الْأَمْوَالِ مِنَ اللَّهِ تعالى إنما يكون بالجوانح الَّتِي تُصِيبُ الْأَمْوَالَ وَالثَّمَرَاتِ، وَمِنَ الْعَدُوِّ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَنَّ الْقَوْمَ لِاشْتِغَالِهِمْ لَا يَتَفَرَّغُونَ لِعِمَارَةِ الْأَرَاضِي، وَنَقْصُ الْأَنْفُسِ مِنَ اللَّهِ بِالْإِمَاتَةِ وَمِنَ الْعِبَادِ بِالْقَتْلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُضِفْ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ إِلَى نَفْسِهِ بَلْ عَمَّمَ وَقَالَ: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَهَا كُلُّ مَضَرَّةٍ يَنَالُهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنَالُهَا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَيْهِ تَكْلِيفًا، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى خِلَافِهِ كَانَ تَارِكًا لِلتَّمَسُّكِ بِأَدَائِهِ فَالَّذِي يَنَالُهُ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَعَدْلٌ وَخَيْرٌ وَصَلَاحٌ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرِّضَا بِهِ وَتَرْكُ الْجَزَعِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ لِأَنَّ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ تَفْوِيضَ الْأُمُورِ إِلَيْهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ فِيمَا يَبْتَلِيهِمْ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ [غَافِرٍ: ٢٠] أَمَّا إِذَا نَزَلَتْ بِهِ الْمُصِيبَةُ مِنْ غَيْرِهِ فَتَكْلِيفُهُ أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاب مِنْهُ وَأَنْ يَكْظِمَ غَيْظَهُ وَغَضَبَهُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ شُفَعَاءَ غَيْظُهُ، وَيَدْخُلُ أَيْضًا تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَلْزَمَهُ سُلُوكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حَتَّى لَا يُجَاوِزَ أَمْرَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْأَوَّلِ، إنا الله يُدَبِّرُ فِينَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي الثَّانِي يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ يَنْتَصِفُ لَنَا كَيْفَ يَشَاءُ.