[الجزء الواحد والثلاثون]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النبأ]
أربعون آية مكية
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)
[في قوله تعالى عَمَّ يَتَساءَلُونَ] فِيهِ مَسَائِلٌ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَمَّ أَصْلُهُ حَرْفُ جَرٍّ دَخَلَ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةَ، قَالَ حَسَّانُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
وَالِاسْتِعْمَالُ الْكَثِيرُ عَلَى الْحَذْفِ وَالْأَصْلُ قَلِيلٌ، ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الْحَذْفِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ لِأَنَّ الْمِيمَ تَشْرَكُ الْغُنَّةَ فِي الْأَلِفِ فَصَارَا كَالْحَرْفَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ إِنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوا مَا فِي اسْتِفْهَامٍ حَذَفُوا أَلِفَهَا تَفْرِقَةً بَيْنِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ اسْمًا كَقَوْلِهِمْ: فِيمَ وَبِمَ وَلِمَ وَعَلَامَ وَحَتَّامَ وَثَالِثُهَا: قَالُوا حُذِفَتِ الْأَلِفُ لِاتِّصَالِ مَا بِحَرْفِ الْجَرِّ حَتَّى صَارَتْ كَجُزْءٍ مِنْهُ لِتُنْبِئَ عَنْ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ وَرَابِعُهَا: السَّبَبُ فِي هَذَا الْحَذْفِ التَّخْفِيفُ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَفْظٌ كَثِيرُ التَّدَاوُلِ عَلَى اللِّسَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عَمَّ يَتَساءَلُونَ أَنَّهُ سُؤَالٌ، وَقَوْلُهُ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ جَوَابُ السَّائِلِ وَالْمُجِيبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِالْغَيْبِ، بَلْ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ يَذْكُرَ الْجَوَابَ مَعَهُ؟
قُلْنَا لِأَنَّ إِيرَادَ الْكَلَامِ فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَقْرَبُ إِلَى التَّفْهِيمِ وَالْإِيضَاحِ وَنَظِيرُهُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: ١٦] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ (عَمَّا) وَهُوَ الْأَصْلُ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَمَّهْ بِهَاءِ السَّكْتِ، وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُجْرِيَ الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ وَيَبْتَدِئَ بِ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنْ يُضْمِرَ يَتَسَاءَلُونَ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يُفَسِّرُهُ كَشَيْءٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ يُفَسِّرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: (مَا) لَفْظَةٌ وُضِعَتْ لِطَلَبِ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا، تَقُولُ مَا الْمُلْكُ؟ وَمَا الرُّوحُ؟ وَمَا الْجِنُّ؟ وَالْمُرَادُ طَلَبُ مَاهِيَّاتِهَا وَشَرْحُ حَقَائِقِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ مَجْهُولًا. ثُمَّ إِنَّ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَكُونُ لِعِظَمِهِ وَتَفَاقُمِ مَرْتَبَتِهِ وَيُعْجِزُ الْعَقْلَ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِكُنْهِهِ يَبْقَى مَجْهُولًا، فَحَصَلَ بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ