ضَمَانٍ قَوِيٍّ خُصُوصًا وَأَتْبَعُوا ذَلِكَ بِعِلَّةٍ قَوِيَّةٍ تُوجِبُ التَّشَدُّدَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنْهُ الْعَدُوُّ هَذَا الْمَبْلَغَ فَالظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِهِ الِاجْتِهَادُ فِي قَمْعِ عَدُوِّهِ وَمُقَاتَلَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: المشهور أنه يقال: مالك تفعل كذا؟ ولا يقال: مالك أَنْ تَفْعَلَ كَذَا؟ قَالَ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: ١٣] وَقَالَ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الْحَدِيدِ: ٨] .
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ: أَنَّ (مَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَحْدٌ لَا اسْتِفْهَامٌ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا لَنَا نَتْرُكُ الْقِتَالَ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَزُولُ السُّؤَالُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نُسَلِّمَ أن (ما) هاهنا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ الأول: قال الأخفش:
أن هاهنا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: مَا لَنَا لَا نُقَاتِلُ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الزِّيَادَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ خِلَافُ الْأَصْلِ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَلَامُ هاهنا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَكَ: مَا لَكَ لَا تُقَاتِلُ مَعْنَاهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُقَاتِلَ؟ فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى الْمَنْعِ حَسُنَ إِدْخَالُ أَنْ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص: ٧٥] وَقَالَ: مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الْحِجْرِ: ٣٢] الثَّالِثُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَى وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ أَيُّ شَيْءٍ لَنَا فِي تَرْكِ الْقِتَالِ؟ ثُمَّ سَقَطَتْ كَلِمَةُ فِي وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، قَوْلَ/ الْكِسَائِيِّ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَمْنَعُنَا مِنْ أَنْ نُقَاتِلَ، إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ يَبْقَى اللَّفْظُ مَعَ هَذَا الْإِضْمَارِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ لَا يَبْقَى، فَكَانَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى وَأَقْوَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ فَبَعَثَ لَهُمْ مَلِكًا وَكَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ فَتَوَلَّوْا.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ عَبَرُوا مِنْهُمُ النَّهَرَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ عَدَدُ هَذَا الْقَلِيلِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ حِينَ خَالَفَ رَبَّهُ وَلَمْ يَفِ بِمَا قِيلَ مِنْ رَبِّهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ وُجُوبَ ذَلِكَ بِأَنْ ذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْجِهَادِ وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى مِثْلِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الظَّالِمُ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي كَوْنِهِ زَجْرًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي كَوْنِهِ بَعْثًا عَلَى الْجِهَادِ، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ والله أعلم.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٧]]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَلَّوْا فَبَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ مَا تَوَلَّوْا إِنْكَارُهُمْ إِمْرَةَ طَالُوتَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : طَالُوتُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، كَجَالُوتَ، ودَاوُدَ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِتَعْرِيفِهِ وَعُجْمَتِهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنَ الطُّولِ لِمَا وُصِفَ بِهِ مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الْجِسْمِ، وَوَزْنُهُ إِنْ كَانَ مِنَ الطُّولِ فَعَلُوتُ، وَأَصْلُهُ