المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَيْ لَا يَتَقَدَّمُونَ الْوَقْتَ الْمُؤَقَّتَ لِعَذَابِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَأْصِلُهُمْ إِلَّا إِذَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا عِنَادًا وَأَنَّهُمْ لَا يَلِدُونَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِي بَقَائِهِمْ لِغَيْرِهِمْ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي هَلَاكِهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: ٢٧] .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا أَنْشَأْنَا بَعْضَهُمْ بَعْدَ بَعْضٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ قَرَأَ ابن كثير تترا مُنَوَّنَةً وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ لِأَنَّهَا فَعْلَى مِنَ الْمُوَاتَرَةِ وَهِيَ الْمُتَابَعَةُ وَفَعْلَى لَا يُنَوَّنُ كَالدَّعْوَى وَالتَّقْوَى وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَتَرِ وَهُوَ الْفَرْدُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ تَتْرَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْحَالِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُتَوَاتِرَةٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ [المؤمنون: ٤٤] يَعْنِي أَنَّهُمْ سَلَكُوا فِي تَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْلَكَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ أَهْلَكَهُ اللَّه بِالْغَرَقِ وَالصَّيْحَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أَيْ بِالْهَلَاكِ.
[وَقَوْلُهُ] : وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمْعَ الْحَدِيثِ وَمِنْهُ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَلَغَ فِي إِهْلَاكِهِمْ مَبْلَغًا صَارُوا مَعَهُ أَحَادِيثَ فَلَا يُرَى مِنْهُمْ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُذْكَرُ وَيُعْتَبَرُ بِهِ.
وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ أُحْدُوثَةٍ مِثْلَ الْأُضْحُوكَةِ وَالْأُعْجُوبَةِ، وَهِيَ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ تَلَهِّيًا وَتَعَجُّبًا.
ثُمَّ قَالَ: فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَالذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ، وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَمَا أُهْلِكُوا عَاجِلًا فَهَلَاكُهُمْ بِالتَّعْذِيبِ آجِلًا عَلَى التَّأْبِيدِ مُتَرَقَّبٌ وَذَلِكَ وعيد شديد.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
القصة الرابعة- قصة موسى عليه السلام
اخْتَلَفُوا فِي (الْآيَاتِ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَانْفِلَاقُ الْبَحْرِ وَالسُّنُونَ وَالنَّقْصُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَقَالَ الْحَسَنُ قَوْلُهُ: بِآياتِنا أَيْ بِدِينِنَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ لو كانت هي المعجزات والسلطات الْمُبِينُ أَيْضًا هُوَ الْمُعْجِزُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَاتِ إِذَا ذُكِرَ فِي الرُّسُلِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْمُعْجِزَاتُ، وَأَمَّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ مُعْجِزَاتِهِ وَهُوَ الْعَصَا لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِهَا مُعْجِزَاتٌ شَتَّى مِنِ انْقِلَابِهَا حَيَّةً وَتَلَقُّفِهَا مَا أَفَكَتْهُ السَّحَرَةُ وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر