تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٣٣] فَكَيْفَ يَبْقَى التَّخْوِيفُ حَاصِلًا؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إِنَّمَا أُنْزِلَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَكَانَ التَّخْوِيفُ حَاصِلًا قَبْلَ نُزُولِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَ كُفَّارَ مَكَّةَ، وَذَكَرَ فَضْلَ عَادٍ بِالْقُوَّةِ وَالْجِسْمِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ مَا فِي قَوْلِهِ فِيما بِمَنْزِلَةِ الَّذِي. وإِنْ بِمَنْزِلَةِ مَا وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالًا، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةُ كَلِمَةُ إِنْ زَائِدَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَبَثٌ لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْوَى مِنْكُمْ قُوَّةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ مَا نَجَوْا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ دلّت الآية على أنهم كانوا أقوى قوة مِنْ قَوْمِ مَكَّةَ الثَّالِثُ: أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مَرْيَمَ: ٧٤] وَقَالَ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [غَافِرٍ: ٨٢] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً وَالْمَعْنَى أَنَّا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ النِّعَمِ وَأَعْطَيْنَاهُمْ سَمْعًا فَمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي سَمَاعِ الدَّلَائِلِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ أَبْصَارًا فَمَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي تَأَمُّلِ الْعِبَرِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ أَفْئِدَةً فَمَا اسْتَعْمَلُوهَا فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ صَرَفُوا كُلَّ هَذِهِ الْقُوَى إِلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَلَا جَرَمَ مَا أَغْنَى سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ، وَلَفْظُ إِذْ قَدْ يُذْكَرُ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ إِذْ أَسَاءَ، وَالْمَعْنَى ضَرَبْتُهُ لِأَنَّهُ أَسَاءَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْوِيفٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ قَوْمَ عَادٍ لَمَّا اغْتَرُّوا بِدُنْيَاهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللَّهِ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ وَلَا كَثْرَتُهُمْ، فَأَهْلُ مَكَّةَ مَعَ عَجْزِهِمْ وَضَعْفِهِمْ أَوْلَى بِأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَخَافُوا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَطْلُبُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ يَا كَفَّارَ مَكَّةَ مِنَ الْقُرَى، وَهِيَ قُرَى عَادٍ وَثَمُودَ بِالْيَمَنِ وَالشَّامِ وَصَرَّفْنَا الْآياتِ بَيَّنَّاهَا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ أَيْ لَعَلَّ أَهْلَ الْقُرَى يَرْجِعُونَ، فَالْمُرَادُ بِالتَّصْرِيفِ الْأَحْوَالُ الْهَائِلَةُ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَ الْإِهْلَاكِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَعْنَاهُ لِكَيْ يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ رُجُوعَهُمْ وَلَمْ يَرِدْ إِصْرَارَهُمْ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِرَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً الْقُرْبَانُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تعالى،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute