للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ:

قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»

وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِغَيْرِ الْأَقَارِبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْوَاجِبَةُ مُخْتَصَّةً بِالْأَقَارِبِ، وَصَارَتِ السُّنَّةُ مُؤَكِّدَةً لِلْقُرْآنِ فِي وُجُوبِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ.

وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ الْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا فَأَجْوَدُ مَا لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَهُ فِيمَا قَبْلُ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ الْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا، اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ الْأَوَّلُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لِلْأَفْقَرِ فَالْأَفْقَرِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُمْ الأغنياء سَوَاءٌ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَخَالِدِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ يُوصِي لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَلَهُ قُرَابَةٌ لَا تَرِثُهُ: يَجْعَلُ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ لِذَوِي الْقَرَابَةِ وَثُلُثَ الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ الْأَقَارِبَ إِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ انْتُزِعَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الأجانب وردت إلى الأقارب والله أعلم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٨١]]

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ وَوُجُوبَهَا، وَعِظَمَ أَمْرِهَا، أَتْبَعَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَعِيدِ فِي تَغْيِيرِهَا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْمُبَدِّلُ مَنْ هُوَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ هُوَ الْوَصِيُّ/ أَوِ الشَّاهِدُ أَوْ سَائِرُ النَّاسِ، أَمَّا الْوَصِيُّ فَبِأَنْ يُغَيِّرَ الْوَصِيُّ الْوَصِيَّةَ إِمَّا فِي الْكِتَابَةِ وَإِمَّا فِي قِسْمَةِ الْحُقُوقِ وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَبِأَنْ يُغَيِّرَ شَهَادَةً أَوْ يَكْتُمَهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَصِيِّ وَالشَّاهِدُ فبأن يمنعوا من وصول ذَلِكَ الْمَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ التَّغْيِيرِ هُوَ الْمُوصِي نَهَى عَنْ تَغْيِيرِ الْوَصِيَّةِ عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوصُونَ لِلْأَجَانِبِ وَيَتْرُكُونَ الْأَقَارِبَ فِي الْجُوعِ وَالضُّرِّ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ، ثُمَّ زَجَرَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا التَّكْلِيفِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ عَائِدٌ إلى الوصية، مع أن الكناية المذكورة مذكورة وَالْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةٌ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ وَدَالَّةٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٥] أَيْ وَعْظٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ بَدَّلَ مَا قَالَهُ الْمَيِّتُ، أَوْ مَا أَوْصَى بِهِ أَوْ سَمِعَهُ عَنْهُ وَثَانِيهَا:

قِيلَ الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحُكْمِ وَالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ بَدَّلَ الْأَمْرَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةً وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ تَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ وَخَامِسُهَا: أَنَّ تَأْنِيثَ الْوَصِيَّةِ لَيْسَ بِالْحَقِيقِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى عَنْهَا بِكِنَايَةِ الْمُذَكَّرِ.

أما قوله: بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ أَوْ يَعْظُمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَدِّلُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلسَّمَاعِ لَوْ لَمْ يَقَعِ الْعِلْمُ بِهِ، فَصَارَ إِثْبَاتُ سَمَاعِهِ كَإِثْبَاتِ عِلْمِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِثْمُهُ