وَكَذَا، وَيَتَفَحَّصُونَ عَنْهُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ. وَرَابِعُهَا: نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.
وَخَامِسُهَا: نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ كَانُوا إِذَا قَرَءُوا وَذَكَرُوا مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَأَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ سَأَلُوا مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ هَلْ وُلِدَ فِيهِمْ مَنْ يُوَافِقُ حَالُهُ حَالَ هَذَا الْمَبْعُوثِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِنُبُوَّتِهِ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ التَّوْرَاةَ/ نُقِلَتْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ فِيهَا نَعْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَعْنِي بَيَانَ أَنَّ الشَّخْصَ الْمَوْصُوفَ بِالصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَالسِّيرَةِ الْفُلَانِيَّةِ سَيَظْهَرُ فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْقَوْمُ مُضْطَرِّينَ إِلَى مَعْرِفَةِ شَهَادَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ كَوْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، فَكَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ فِي التَّوْرَاةِ كَانَ وَصْفًا إِجْمَالِيًّا وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَمْ يَعْرِفُوا نُبُوَّتَهُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، بَلْ بِظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ صَارَتْ تِلْكَ الْأَوْصَافُ كَالْمُؤَكِّدَةِ، فَلِهَذَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِنْكَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: كَفَرُوا بِهِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَبْعُوثَ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَثْرَةِ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا يُرَغِّبُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ صَلَوَاتُ الله عليه، عظم ذلك عليهم فَأَظْهَرُوا التَّكْذِيبَ وَخَالَفُوا طَرِيقَهُمُ الْأَوَّلَ. وَثَانِيهَا: اعْتِرَافُهُمْ بنبوته كان يوجب عليهم زوال رئاساتهم وَأَمْوَالِهِمْ فَأَبَوْا وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِنْكَارِ.
وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً فَلَا جَرَمَ كَفَرُوا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَفَّرَهُمْ بَعْدَ مَا بَيَّنَ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِنُبُوَّتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ فَالْمُرَادُ الْإِبْعَادُ مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْمُبْعَدَ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا لَا يَكُونُ مَلْعُونًا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الْبَقَرَةِ: ٨٣] وَقَالَ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٠٨] قُلْنَا: الْعَامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا قَبْلُ أَنَّ لَعْنَ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ والله أعلم.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٩٠]]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
اعْلَمْ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ بِئْسَمَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَصْلُ نِعْمَ وبئس نِعْمَ وَبِئْسَ بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي كَقَوْلِنَا: «عَلِمَ» إِلَّا أَنَّ مَا كَانَ ثَانِيهِ حَرْفَ حَلْقٍ وَهُوَ مَكْسُورٌ يَجُوزُ فِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، الْأَوَّلُ: عَلَى الْأَصْلِ أَعْنِي بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي. وَالثَّانِي:
إِتْبَاعُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ، وَكَذَا يُقَالُ: فِخِذٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْخَاءِ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا